عاجل
الإثنين 8 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
أشرف عبد الغفور.. والدكتورة منى صفوت

في وداع المنارات المصرية

أشرف عبد الغفور.. والدكتورة منى صفوت

هذا الفقد الخاص جداً، يحدث عندما يرحل عنا القريبون جداً من القلب والعقل.



 

فماذا لو كان هؤلاء من أهم رموز الحياة العامة في مصر؟ هكذا يشملني حزن أعم، خاصة مع رحيل الندرة النادرة من جيل عظيم يغادرنا، جيل المقاومة في الثقافة والفن والإبداع والتعليم في مصر.

 

فما كدت أفرغ من حزن مقيم لا يفارقني برحيل الكاتب الكبير الأستاذ يعقوب الشادوني، حتى داهمني هذا الحزن مضاعفاً برحيل الفنان الكبير أشرف عبد الغفور، ولدى عودتي من واجب العزاء، أكمل رحيل أ.د منى صفوت أستاذ اللغة الفرنسية على ما بقي عندي من مقاومة لمشاعر الحزن العميق الذي سيبقى طويلاً، ذلك أن هؤلاء كانوا من حراس الضمير المصري، أصحاب الفهم المهني والإنساني والأخلاقي، إنهم منارات تضيء سماء تلك المجالات الحيوية.

 

وإذا كنت قد كتبت المقال السابق في وداع الكبير يعقوب الشاروني، فحقاً لا أستطيع بينما أسطر وداعي للفنان الكبير أشرف عبد الغفور أن أنتظر لأودع أستاذة اللغة الفرنسية وآدابها في كلية الآداب جامعة عين شمس أ.د منى صفوت أستاذة الأجيال.

 

كان أشرف عبد الغفور الفنان المبدع الجميل هو بطل مسرحيتي "أمير الخيال"، مع الكبير الراحل عبد المنعم مدبولي، وقد كانت 2007 على مسرح السلام بالقصر العيني بهجتي النادرة التي أحرص عليها وهي العمل من أجل الأطفال، وقد كانت "أمير الخيال"، من تأليف يعقوب الشاروني وفي بصيرة رؤيته الثقافية الناقدة.

 

أسرع موافقة من فنان كبير للعمل معي في المسرح طوال مسيرتي المهنية كانت تلك التي تشرفت بها من الفنان الكبير أشرف عبد الغفور مكتفياً فقط بمعرفة أن الشاروني هو المؤلف، وعندما التقيا في مكتبة المسرح القومي التي كنا نجري بها القراءة الأولى علمت أنهما عملا معاً بشكل مبكر في منتصف الستينيات في درامات إذاعية للأطفال.

 

ثم توالت التدريبات ليشرق علينا أشرف عبد الغفور إبداعاً وقيماً وتعليماً لكل الأجيال الجديدة التي كانت معنا في العمل.

 

فبشكل مدهش شارك بكل جدية في تحضيرات انتهاء الكتابة بمشاركة الشاعر الكبير جمال بخيت الذي جعلهم جميعهم يغنون أشعاراً رائعة، ثم شارك في تدريبات العمل فلم يتأخر يوماً عن ميعاده ولم يتغيب يوماً. 

 

بدا مدهشاً للجميع في قدرته على التواصل مع جمهور الأطفال الذين أحبوه جداً.. إنه العم شعبان تاجر الملح الطيب الذي أخذهم إلى عالم مدهش.

 

إنه إذن ذات الممثل المبدع صاحب الأدوار المركبة والجادة، المدهش في مقدرته على التمثيل باللغة العربية الفصحى، والتي تمتعنا بها في أهم الدرامات التليفزيونية التاريخية والدينية. 

 

كما أثرى المسرح المصري بروائع منها "جولفدان هانم 1962 مروراً بسليمان الحلبي وموتى بلا قبور ووطني عكا والنار والزيتون وصولاً إلى الملك لير".

 

بالتأكيد تبقى أعماله علامات فارقة في السينما والمسرح والدراما التليفزيونية ولعل آخرها ما يبقى في الذاكرة على حضوره المدهش دوره في دراما "جبل الحلال" مع الراحل الكبير محمود عبد العزيز، وهى عديدة ومتنوعة وكثيرة العدد، وللإذاعة المصرية منها نصيب كبير في البرنامج الثاني وغيره.

 

هذا الرجل المبدع الذي قدم للحياة الفنية أكثر من 283 عملاً ما بين السينما والدراما التليفزيونية والمسرح، كثيراً ما فكرت أن أكاديمية الفنون قد فقدت الكثير عندما ترك عمله الأكاديمي بها كمعيد جاد عام 1963 ليتفرغ للعمل المهني، ذلك أن مجرد حضور أشرف عبد الغفور في مكان العمل هو حضور لأستاذ معلم ينشر بسلوكه الجاد تعليماً واحتراماً ويرسخ قواعد المهنة.

 

أشرف عبد الغفور كان دارساً ومثقفاً وخلوقاً (1942 – 2023)، كان يعرف المهنة جيداً.

 

لا تشعر بوجوده في كواليس العمل لأنه يعيش تفاصيل الشخصية الدرامية، يظهر لحظة أن يأتي دوره في العمل، يعرف جيداً حقوق الفنان وواجباته ويحترم جداً علاقته بالزملاء.

 

وطوال مسيرتي الفنية التي بدأتها منذ 1986 حتى الآن، لم أشهد ممثلاً مصرياً في العروض المسرحية ثابتاً لا يتغير هو كل ليلة عرض ولا يقل اهتمامه أو إبداعه لا يضيف ولا يحذف لعمل المخرج شيئاً، إنه في العروض المسرحية هو الشخصية الدرامية التي يعتبرها أمانة اتفق عليها مع المخرج، لا تتغير لا تتأثر.. إنه الانضباط المهني المدهش جداً إنها حقاً مدرسة فريدة في فن التمثيل المسرحي يحكمها الخلق الرفيع والإخلاص النادر.

 

أما في الدراما التليفزيونية والسينما فعليك أن تتأمل كل شخصية أبدعها لتدرك حقاً اختلاف كل شخصية عن أخرى.. كل ما قدمه إبداع نادر يشمله احترام المهنة والجمهور والفن.

 

أما عن فترة توليه المسؤولية نقيباً للمهن التمثيلية (2011 – 2015) فقد كانت فترة انضباط مهني وحرية في إتاحة الفرص تسير دون توجيه أو تأثير، وقد أنجز في النقابة بهدوء نادر وبحس صوفي سري يبتعد عن الإعلام أمرين مهمين تفخر بهما النقابة، وربما لا يعرف الكثيرون أنهما إنجازه هو.

 

فقد أنجز مشروعاً للإسكان المتميز لشباب الفنانين أتاح فرصاً للحب والزواج لدى قطاع كبير من الشباب، كما أنجز دار المسنين الخاص بالفنانين حرصاً على النهايات السعيدة لأهل الفن ممن تحكم عليهم الأيام بالبقاء بمفردهم بعد رحلة الكفاح، فكانت تلك الدار الحضارية التي هي الملاذ الآمن للجميع من الوحدة في السن المتقدم بعد أعمار من الزحام والإبداع.

 

أما الفقد الثاني العميق فهو لأستاذتي وأستاذة الأجيال أ.د منى صفوت التي التقيتها في دبلوم الدراسات العليا بالمعهد العالي للفنون المسرحية كطاقة نور، علم وإنسانية ورقي نادر.

 

أدهشتني بما لديها من اتصال بعلوم النقد المسرحي الحديث والمعاصر، التي كانت تتابعه يوماً بيوم عبر اتصالها بالمكتبات الكبرى في فرنسا.

 

وقد حظيت بأنها كانت المشرف المشارك على رسالتي للماجستير والدكتوراه وعرفت معها كيف يكون الأستاذ، كيف ينقل المعرفة بسلاسة، كيف يكون مخلصاً متبتلاً في محراب العلم. 

 

كانت تشتري الكتب بشكل منظم عند صدورها في باريس، وتدفع أموالاً كبيرة للشراء والشحن من باريس للقاهرة، وكانت القائمة التي تطلبها تقريباً هي ما أحتاجه في دراستي، ثم تجلس معي في صالة بيتها العامر بمصر الجديدة لتترجم لي وتشرح، بينما أكتب ما تحصده لي من رحيق المعرفة والتجربة بكل تواضع أصيل.

 

أما عندما تكون جلسة العمل في جامعة عين شمس، فما كل هذا الاحتفاء بتلميذها، وعندما كنت لا أجدها في مكتبها وهي رئيس قسم اللغة الفرنسية، كنت أبحث عنها لأجدها في مشروعها الإنساني العلمي النادر لتعليم المكفوفين، والتي أنشأت له فريق عمل بالجامعة، في كل مرة كنت أرى حباً لها من الطلاب والمكفوفين خاصة ولأنها نور العيون والأرواح والعقول، لأنها صانعة الأمل.

 

ولقد انجذبت أستاذة الأدب الفرنسي للمسرح، فأسست بكلية الآداب قسماً للدراما والنقد المسرحي بجامعة عين شمس، ودعمت فريق المسرح بالجامعة سنوات طوال، ومن النجوم الذين ظهروا في ظل دعمها الفنان المبدع خالد الصاوي وغيره الكثير.

 

أ.د منى صفوت التي كانت قد حدثت مشروعاً علمياً يجب أن تنفذه جامعة عين شمس إحياء لذكرى مهنيتها النادرة وحرصها على العلم والصالح العام، لأنه مشروعها الذي أخذ سنواتها الأخيرة دون أن يرى النور، وهو مشروع متطور جداً في علم الأعصاب الثقافي وفي المسافات المشتركة بين العلوم والفنون والنقد، في علاقة الطب والمسرح والنقد بالأعصاب والإدراك في اتصال مع عالم يستعيد الجمع بين العلوم والفنون في احتفاء بالعلوم والدراسات البينية والناشئة.

 

الأستاذة المترجمة صاحبة العديد من الترجمات للنصوص المسرحية والنقدية المحتفية بعلوم النقد المعاصر.

 

رحلت أستاذتي وهي في رحيلها تلحق بالرموز العظيمة. الشاروني، عبد الغفور، منى صفوت، وداعاً يا نور الضمير في القوة الناعمة المصرية، في جنة الخلد إن شاء الله، ستبقون منارات تضيء لنا وللأجيال القادمة.

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز