عاجل
الثلاثاء 24 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي

رؤوف توفيق .. رحلة النقد والإبداع

الكاتب والناقد السينمائى رؤوف توفيق
الكاتب والناقد السينمائى رؤوف توفيق

  أثرى رؤوف توفيق حياتنا الثقافية بكتاباته النقدية عن فن السينما الذي يؤثر تأثيرا كبيرا على جمهور المتلقين هذا الفن الذي يُعبر عن الكثيرين وخاصة الطبقات المُهمشة التي وجدت في أبطال السينما، ونجومها من يُبعـﺑﱢر عنهم بصدق وبساطة.



 

 

أتقن رؤوف توفيق تحليل لغة السينما من صور ومشاهد معـﺑﱢرة، وما تحمله من دلالات ومعانٍ، وثقافات فكان من أبرز النقاد الذين نضجت تجربتهم النقدية على مهل، فلقد ارتبط بفن السينما منذ طفولته، فشكلت خياله عندما كان يستمع لموكب الدعاية للأفلام الجديدة في بنى سويف حين يبشر أهل المدينة بفيلم جديد فيقول رؤوف توفيق: "كانت سينما "الأهلى" تفخر بتقديم الفيلم بالألوان الطبيعية تُلهب خيالي بصور لجبال وأنهار وحدائق".

 

وكانت متعته أن يحضر لحظة تغيير أفيشات الفيلم المعروض بأخرى جديدة، وكان يُسابق بخياله تركيب اسم الفيلم وصور وجوه الممثلين، وعندما انتقل إلى القاهرة مع بداية دراسته الجامعية كان جزءا من جمال القاهرة هو تعدد دور السينما فيها.

 

• سينما وموسيقى

 

ارتبط رؤوف توفيق بأمكنة العروض السينمائية فأصبحت جزءا من ذكرياته وحياته اليومية فيقول إنه عندما سكن في شبرا في البداية، كانت سينما "الجندول" دار عرض صيفية، وكان أغلب روادها من اليونانيين الذين يسكنون شبرا، ثم أحب سينما "أمير" أيضا بطابقيها المتميزين، وكانت تعرض فيلمين في عرض واحد.

 

 

 أما الفسحة الحقيقة فكانت النزول إلى قلب المدينة، ودخول سينما "ريفولى" وقمة الإبهار كان بصعود آلة "الأرغن" من بطن المسرح ليعزف عليها أحد الموسيقيين قبل العرض السينمائى وأثناء الاستراحة، أو دخول سينما "سان جيمس" الصيفى بشارع الألفى بعماد الدين، ومن هذا المزيج بين السينما والموسيقى تَكَوَّن هذا المزاج الرهيف لكاتبنا الذي وصف حبه للسينما متحدثا عن تجربته في النقد السينمائى فيقول في كتابه: "أوراق في عشق السينما": "من تعدد المشاهدة، والرغبة في التأمل والتحليل، وقراءة ما وراء الصور والكلمات تكونت المصفاة التي تفرز الجيد والردىء، ومع السفر إلى الخارج، ومشاهدة المهرجانات السينمائية اكتشفت صورا جديدة من السينما لاتصل إلينا".

 

• سينما أخرى

 

ومن هذه الرؤية الثاقبة التقط كاتبنا فكرة ضرورة تعريف المشاهد العربى بأهم ما تنتجه السينما العالمية، وأهم الأفكار المطروحة من خلال نماذج من تلك الأفلام، فبد كتاباته النقدية عن هذه الأفلام على صفحات مجلة "صباح الخير" وكان ينتقى الأفلام التي تُمجد قيم الإنسان، وتدافع عن المبادئ والقيم الأصيلة والنبيلة فقد كان يرى أن أفلام التسلية الوقتية، وأفلام الغرائز هي مدمرة لكل المحاولات الجادة للعقل العربى، ومن هنا كان هدفه أن يبرز سينما أخرى جادة، تقول شيئا يستحق التوقف عنده، وتأمله كما يقول في كتابه "سينما الحقيقة".

 

•  قطعة تتلألأ من الفن

 

كان رؤوف توفيق يقدم قراءة سينمائية لنصوص الأفلام كما تظهر على الشاشة ويرى السينما فكرا يتجسد في قطعة من الفن تتلألأ على مر الأيام والسنين، فبدأ في كتابة سلسلة من الكتب السينمائية التي تلقى الضوء على أهم ما تنتجه السينما العالمية، وبدأ هذه السلسلة عام 1974، عندما أصدر كتابه "السينما عندما تقول لا"، ثم عدة كتب منها: "سينما الحقيقة"، و"سينما الحب"، و"سينما المرأة"، و"سينما الزمن الصعب".

 

• الأفلام المتميزة

 

 

القراءة السينمائية التي كان يقوم بها لنص الفيلم كما ظهر على الشاشة كانت تتيح للقارئ العربي المهتم بفن السينما أن يعيش أحداث الفيلم في محاولة للاقتراب من تناول الإنتاج العالمى الحديث من الأفلام التي كان لها صدى واسعا بين الرأي العام، وفي المهرجانات الدولية، وفي كتابة "سينما الحقيقة" جمع الأفلام المتميزة العالمية التي جسدت موقف الإنسان من السلطة التي تتحكم في حياته، ومقدراته سواء أكانت تلك السلطة هي سلطة الجهاز السياسي الحاكم، أو سلطة أصحاب الأموال.

 

• فن التعبير لا فن الكلام

 

كانت قراءة كاتبنا للأفلام السينمائية مكتوبة بلغة عذبة، وكأنك تقرأ قصصا قصيرة أو طويلة تؤتى ثمارها ومعانيها بأسلوب حرص على أن يصوﱢر المشاهد بمشاعر حقيقية، استشفها من خبايا أحداث الفيلم، وشخصياته، وقد منحها الإطار الفني والرموز الدلالية عن حقيقة قصة الفيلم وأحداثه وأبطاله، وكان يرى أن فن التمثيل هو فن التعبير لا فن الكلام، وأن أفضل حالات الممثل هي التي لا تتحرك فيها شفتاه على الإطلاق.

 

وكان كاتبنا يصدر عن رؤية موضوعية لهذه الأفلام، ولا يكتب من خلال رؤية موضوعية لهذه الأفلام، ولا يكتب من خلال رؤية مسبقة أو أحكام جاهزة وإنما كان يعطى حواسه وذائقته النقدية للتعاطي مع الفيلم بأمانة وصدق وكان مؤمنا بمقولة للمخرج الإيطالى الشهير "فللينى" عندما قال ذات مرة: بمجرد أن يصيح الناقد: أنا ناقد!، فإنه ينتفخ غرورا ولا يصبح قادرا على أن يرى ما هو معروض أمام عينيه بل يرى ما يعتقد أنه كان من الواجب أن يكون موجودا".

 

• ثقافة سينمائية عميقة

 

أسهم كاتبنا في إرساء قاعدة للثقافة السينمائية العميقة من خلال مقالاته النقدية وكتبه، وساعده على ذلك المناخ الثقافي الذي توفر من خلال الجهد الدءوب الذي يبذله "نادي السينما" الذي كان يُصدر نشرات سينمائية تحتوى على دراسات وترجمات، يقوم بها مجموعة مخلصة ومتحمسة لفن السينما، وكذلك ما تقدمه "جمعية الفيلم" بالقاهرة في نشر الثقافة السينمائية، وخلق نوعية جديدة من المشاهدين، يسعون إلى السينما الجادة، ومن حصيلة م شاهداته في المهرجانات السينمائية العالمية، وما عُرض منها في مصر مستضيئا بتقدير النقاد العالميين لها، وما تركته بعض هذه الأفلام من علامات في تاريخ السينما.

 

•  سينما متوحشة!

 

وكان كاتبنا يتردد أحيانا أمام عرض بعض الأفلام كما يقول في كتابه "سينما الزمن الصعب" لإحساسه بمدى قسوتها ومرارتها، لكنه كان يحاول قدر جهده تجاوز هذه المشاعر الخاصة فيقول: "لا فائدة من التعلق بحبال الرومانسية، وتجاهل ما يحدث، فهذه السينما المتوحشة هي في النهاية تعبير عن عالم وحشي، الغلبة فيه للأقوياء بأموالهم، ونفوذهم، الأقوياء بما يملكون من أسلحة القهر والإرهاب والتدمير، وهؤلاء لا يظهرون من فراغ، ولا يتحركون في فراغ بل إنهم نتاج طبيعى لظروف سياسية واقتصادية واجتماعية وعلينا أن نفتح عيوننا حتى ندرك الحقيقة".

 

وفى هذا الكتاب "سينما الزمن الصعب" قدم رؤية لأهم أفلام العنف مثل أفلام: "راعى بقر منتصف الليل" للمخرج الإنجليزى جون شليسنجر "وسائق التاكسى" للمخرج الأمريكي "مارتن سكورسيس"، و"برجوازى صغير صغير" للمخرج الإيطالى "ماريو مونشيللى"، كما قدم مجموعة من أفلام الحرب ومنها "الأيتام" للمخرج السوفييتي "نيكولاى جوبنكو"، و"يوم خاص" للمخرج الإيطالي "ايتورى سكولا" 

 

وخصص فصلا في كتابه بعنوان "هكذا يتخيلون المستقبل"، وعرض فيه لبعض الأفلام منها "طفل روز مارى" للمخرج البولندى "رومان بولانسكى"، و"البرتقالة الميكانيكية" للمخرج الأمريكي "ستانلى كوبريك"، وفصلا بعنوان: "شرف المحاولة للخروج من المأزق"، وعرض فيه لبعض الأفلام مثل: "رجل واحد" للمخرج الكندى "روبين سبرى"، و"أحدهم طار فوق عش المجانين" للمخرج التشيكي "ميلوش فورمان".

 

• قضايا المرأة

وكان رؤوف توفيق من أوائل الذين سلطوا الضوء على سينما المرأة عندما توقف بالتأمل والتحليل أمام تيار من الأفلام بدأ يظهر بوضوح في السينما العالمية في منتصف السبعينيات من القرن الماضى، وهو تيار يهتم بقضايا المرأة، وهمومها الخاصة، وطموحاتها في الحياة، وقد تناول الأفلام التي ركزت على الحياة اليومية لكثير من النساء مثل فيلم "المرأة العسراء" الذي كان أول تجربة في الإخراج السينمائى للكاتب والشاعر الألماني "بيتر هاندك"، وكان منهج رؤوف توفيق في هذا الكتاب هو تناول الأفلام التي أخرجها رجال، وتعرضوا من خلالها لنماذج من عالم المرأة، والمجموعة الثانية كتب عن الأفلام التي أخرجتها نساء من خلال وقفة تفصيلية لأعمال ثلاث مخرجات عالميات وهن: المخرجة المجرية "مارتا ميساروش"، والمخرجة الإيطالية "ليليانا كافانى" ، والمخرجة الكندية "آن كلير" وما أنتجنه من أفلام.

 

أما المجموعة الأخيرة من الأفلام التي تناولها كتابه فكانت عن الأفلام التي اعتمدت على استغلال جسد المرأة، منتقدا ميول بعض دور العرض التي تفرض هذه النوعية من الأفلام التجارية التي لا تثير أي اعتراضات أو مشاكل رقابية في بلادها، وفي الوقت نفسه تضمن إيرادا سهلا. 

 

•  الانحياز للرومانسية

تنوعت كتابات رؤوف توفيق ما بين مقالات النقد السينمائى وبين الكتابة الإبداعية للسينما، ومن أهم الأفلام التي قدمها للسينما المصرية فيلم "زوجة رجل مهم"، فكتب السيناريو والحوار لهذا الفيلم وقد انحاز للرومانسية في مقابل المادة، رافضا قتل المشاعر، من خلال شخصية (منى) عاشقة أغنيات عبدالحليم حافظ، والتركيز على التناقض بينها وبين زوجها عاشق السلطة والنفوذ، الذي يفضل أفلام العنف، وتتصاعد هذه المفارقة فتصبغ حياتهما الخلافات حتى ينتهى الفيلم بحادث بالغ العنف عندما يرفض الزوج طلاق زوجته، ويعاقب أباها بالقتل ثم يقتل نفسه، وقد فسر البعض هذا الفيلم تفسيرا سياسيا لكون الزوج أحد المتنفذين في جهاز أمني، وتم إحالته للتقاعد بعد عنفه مع المعتقلين في أعقاب أحداث عام 1977 الشهيرة باسم انتفاضة الخبز في 18، و 19 يناير، فيقف الفيلم ضد العنف، والسلطة الغاشمة التي استخدمها الزوج المهم "هشام" في استجواب المتهمين بدون الالتزام بضبط الإجراءات القانونية.

 

كما انتصر الفيلم للرومانسية وتمثل ذلك في إهداء الفيلم بأكمله إلى زمن وصوت عبدالحليم حافظ، والفيلم من إخراج محمد خان وتمثيل أحمد زكي، وميرفت أمين.

 

• البطل الشعبي

وقد كتب رؤوف توفيق فيلم "مستر كاراتيه"، وأخرجه محمد خان وكان أول عرض له عام 1993 بسينما (ريفولى)، وتصوﱢر قصة الفيلم اصطدام صلاح القروى الذي لعب دوره (أحمد زكى) بقسوة المدينة وعنفها، وعمل سائسا في جراج لكنه كان يتردد على إحدى المقاهى، وشاهد فيها أفلام (بروس لى) التي أصابت وترا في نفسه فقرر أن يتعلم لعبة الكاراتيه، وكأنه يريد أن يكتسب قوة داخلية تعينه على عنف المدينة وقسوتها، ليعـﺑﱢر "صلاح" عن المهمشين الذين يحاولون الانتصار في معركة الحياة، وحيث يبدو "صلاح" بطلا شعبيا يغنى معه الناس كما يقول محمود عبدالشكور في كتابه: "سينما محمد خان – البحث عن فارس"، ولقد كان "صلاح" فارس المهمشين الذن يتجاوب معه الناس في الفيلم فيرددون: "بص شوف مستر كاراتيه".

 

•  أحلام المهمشين

أما فيلم "مشوار عمر" الذي اشترك في كتابته محمد خان ورؤوف توفيق، وهو الفيلم الذي جسَّد الهوة والفارق الاجتماعى بين الأثرياء والفقراء من خلال الثرى (عمر) الذي لعب دوره الفنان فاروق الفيشاوى، الذي يجمعه مشوار عابر مع (عمر) الفتى الريفي البسيط الباحث عن فرصة عمل، ولعب هذا الدور الفنان ممدوح عبدالعليم، و"نجاح" التي تواجه الحياة بمفردها بعد اختفاء زوجها وسفره، وانقطاع أخباره عنها، فيسقط جسدها في هوة الحاجة، ويلتقى الثلاثة معا بعد أن سُرقت سيارة عمر، لكنه عندما يجدها تنقطع صلته بعوالم هؤلاء المهمشين الذين استغل فقرهم ولم يقدم لهم أي مساعدة بل عاد إلى عالمه الضيق، المغلق على ذاته ويُدين الفيلم قسوة هذه الفروق الطبقية، واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء.

 

وتُعد الأفلام الثلاثة إطلالة إبداعية متميزة لكتابات رؤوف توفيق في مجال الكتابة للسينما، ومشاركته الفعالة في السينما المصرية من خلال تعاونه مع المخرج محمد خان الذي يرى كل شخصية أو تجربة يمكن أن تكون فكرة، ويمكن أن تتحول يوما إلى دراما، وهو الأمر الذي جعل التعاون بين رؤوف توفيق ومحمد خان مثمرا فقدما للسينما المصرية أفلاما متميزة، حظت بجمهور واسع من المشاهدين.

 

لقد آمن رؤوف توفيق بأن المتفرج في حاجة دائما إلى الاعتقاد بأن ما يراه على شاشة السينما قد حدث فعلا أو يمكن حدوثه ولذا فهو يؤكد على مقولة المخرج الفرنسي "رينيه كلير": بأن الإحساس بالتعاطف والتآلف الإنسانى الذي ينشأ بين المتفرج وبطل الفيلم يتمدد حتى ينقطع إذا أصبح البطل في عالم ما فوق الواقع"، ولذا فقد انحاز كاتبنا للفن الذي يقوم على الواقع وعلى مشاكل الإنسان المصيرية.

 

وداعا رؤوف توفيق رئيس تحرير مجلة "صباح الخير" الأسبق، والكاتب والناقد السينمائى الكبير.

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز