السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

يبدو المشهد العام في الصراع العربي الإسرائيلي في حرب السابع من أكتوبر مشهداً دالاً وواضحاً وشارحاً لما قد بدأ في أوائل القرن العشرين.

إذ إنه يستعيد الحضور القاسي الذي يظهر للوعي العام بلا تحفظ وبلا التفاف وبدون أية رتوش إضافية تساهم في تجميل الصورة.

ولذلك فهو مع شديد الأسف وبالغ الحزن يشتبك مع مشروع الحداثة الغربية ومركزها الأمريكي المعاصر اشتباكاً واضحاً. ولذلك يتم في هذا المشهد المعاصر غياب الأسئلة الثقافية، التي كانت تصاحب مثل تلك الهجمات القاسية ومثل ذلك الحصار، ومثل تلك الحروب القاسية والتي تستهدف تطهيراً عرقياً ونزوحاً جماعياً لإخلاء الأراضي الفلسطينية، أو ما تبقى منها من أصحابها الأصليين.

ولذلك فإن القرن العشرين المقترن بصعود الحداثة الغربية ثم ما بعدها، هو قرن جاهد ولا يزال في امتداده في القرن الحادي والعشرين من أجل تغيير التركيبة السكانية في معظم أنحاء العالم.

ولذلك لم تكن التطورات الجذرية المرتبطة بعمليات الهجرة من الأطراف للمركز عمليات سهلة، بل أخذت وقتاً طويلاً وفيها تم هجرة أفضل الأفراد المتميزين في مجالات البحث العلمي وميادين العمل، وصحب ذلك أيضاً هجرة للأيدي العاملة الشابة والتي أسهمت في تقدم تلك المراكز الغربية. 

أما الهجرة الأوضح والأكثر قسوة فهي الهجرة من المركز والمركز التابعة له في الغرب ومراكز حضارية أخرى إلى الأطراف بالنسبة لمركز الحداثة، وهى الهجرة إلى فلسطين، وهى أوضح هجرة من الدول المستعمرة إلى الدول المستعمرة يمكن الإشارة إليها بشكل واضح.

ولكن هذا الحراك الاجتماعي المستمر والمتسارع كان يهدد في نهاية الأمر استمرار الأنماط الاجتماعية والحضارية والثقافية والتقليدية في الدول الأقل تطوراً بمفهوم الحداثة الغربية، أي الدولة التي تقع في الطرف البعيد عن المركز الغربي الأول المشجع لتلك الهجرة في لندن، ثم المركز الثاني المعاصر في واشنطن، وما صاحبهما من دعم واضح للمراكز الغربية.

ولذلك فهذه الهجرة الاستعمارية لفلسطين المحتلة هي العلامة الدالة على اشتباك متداخل بين الحداثة والمشروع الاستعماري الغربي، ولذلك فما هو حادث في فلسطين المحتلة هو إدانة لمشروع الحداثة كله، إذ يجعله مشروعاً للهيمنة والاستعلاء بالمركز.

وهو مشروع تبدو إحدى صفاته المعاصرة التغاضي عن الحقوق المشروعة، وصرف النظر عن المخاطر الكبرى، وعدم الالتفات لحقوق الإنسان والتركيز في قلب الحقائق وصنع الأكاذيب المفارقة للواقع.

وفي مشاهد إطلاق الأسرى الحاملين للجنسية المدعاة ألا وهي الجنسية الإسرائيلية المعادل الموضوعي للبقاء في الكيان الصهيوني، وهي مشاهد تعبر عن احترام الثقافة العربية والإسلامية للأسرى وخاصة النساء والأطفال، تكمن دروساً ثقافية حضارية لا يريد ذلك المركز الغربي المعتد بذاته أن يتأملها ليتعلم منها.

فالمركز الغربي رغم حركته نحو الثقافات الأخرى فهو يؤمن بذاته إيماناً مركزياً، ولم يتأثر من قريب أو من بعيد رغم الاقتراب المعاصر والحديث والتاريخي من الثقافات الأخرى، بأي من تلك الثقافات.

كما أنه لا يريد وفقاً لإرادة الإنكار وقوتها أن يتأمل أو يناقش أو يأخذ على محمل الجد أية أفكار تأتي من خارجه، بل ولا حتى الأفكار الجمالية والأخلاقية للثقافات الأخرى. ولذلك فالحداثة وما بعدها متصلة بمشروعات العولمة كوجه ثقافي معرفي لها هي في جوهرها تحمل عناصر جوهرية للانهيار.

إذ إن المشاهد القاسية والحصار الغاشم لأهلنا المدنيين في غزة وخطط ومحاولات تهجيرهم هي امتداد معاصر متطور للإمبريالية في مراحلها الأولية، حيث التركيز والاستحواذ القوي لمصادر الثروة والسلطة العسكرية وأدواتها التي تتحرك بعض من قطعها البحرية لممارسة التهديد والردع لأية محاولات تستخدم القوة لصد العدوان على غزة ولإيقاف عمليات القتل الجماعي ومحاولات التطهير العرقي والتهجير القسري الجماعي.

وهو أمر يهدد أيضاً فكرتي الاستقرار والتنمية في المحيط المجاور العربي لمناطق الصراع المسلح، وهو الأمر الذي يؤكد قسوة النموذج الرأسمالي المحض، الذي يسعى لتوجيه المصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإعلامية نحو مصالحه الأصلية، ألا وهى الحصول على الثروة والقوة فقط، لتبقى مشروعات التنمية والتطور مشروعات غير قابلة للنمو والاستقرار ومهددة بالسطو عليها وتوجيهها لصالح المركز الغربي المهيمن، أينما ووقتما يشاء هذا المركز. 

وهذا هو المأزق الحقيقي الذي نجحت حرب السابع من أكتوبر في استحضاره واضحاً للعالم كله.

ولذلك فيجب حقاً على المراكز الحضارية العربية المتعددة في الأردن الشقيق والمغرب العربي، والخليج العربي أن يدركوا ذلك، حتى وإن بدت التنمية مزدهرة في دول الخليج العربي الشقيق فهي في خطط المركز الغربي المهيمن تنمية وازدهار سيأتي عليهما وقت للسيطرة والاستحواذ عبر ترتيب زمن محدد. 

إذ إن المركز الغربي ومندوبه الذي مارس الهجرة الاستيطانية القاسية المعادية للحقوق المشروعة، لم يترك تلك الأطراف لتزدهر دون خطة للسيطرة واستحواذ للثروة فيها وللنفوذ.  إنه إذن وجه الحداثة الاستعمارية الواضح دون أقنعة أو مساحيق للتجميل.

ولذلك وبشكل معاصر يمكن إعلان المشاهد الدرامية في فلسطين المحتلة كعلامة دالة على فشل مشروع الحداثة المعاصر، وكدليل يجعلنا نتأمل جوهره المعلن عبر إعلان العقل كأهم مبادئ الحداثة. فأين العقل الإنساني أمام قوة الإنكار؟ أين قيم حقوق الإنسان أم الإبادة الجماعية والتهجير القسري؟ أين خطط التنمية ومشروعات التعاون الدولية أمام كل الوضوح الذي لا يعرف الخجل للاستحواذ على الثروة والقوة؟ إن ما يحدث الآن في فلسطين ليس أمراً يشير إلى المسؤولية في الوطن العربي والحوار الإقليمي فقط، بل هو مسألة تخص العالم أجمع.

إذ إنها أكبر إدانة لمشروع الحداثة وذراعه الثقافي الفكري في العولمة، ليست إدانة تشير إلى أن العقل المعاصر لا يعمل إطلاقاً وفقاً لعمل العقل الإنساني الطبيعي.

إنها حقاً لحظة إدانة فكرية جوهرية لمشروع الحداثة المعاصرة وما بعدها، وللعولمة ولتغيير التركيبة السكانية وأهداف وممارسات البشر حول العالم.  لحظة فارقة إذن في عالمنا المعاصر الذي يجب أن ينتصر قليلاً للقيم الإنسانية كي يصبح قادراً على البقاء والاستمرار.

تم نسخ الرابط