لا يزال المشهد الملتهب في الأراضي الفلسطينية المحتلة هو المشهد الأكثر حضورًا مصريًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا.
ولعل اختيار المقاومة الفلسطينية توقيت السابع من أكتوبر الجاري 2023 هو اختيار يحمل دلالة رمزية واضحة في الإشارة للسادس من أكتوبر 1973.
مما يجعلنا نتأمل الأحداث الكبرى الفاصلة في التاريخ العربي الحديث في الصراع العربي الإسرائيلي.
فالتفاصيل الصغيرة والكثيرة والممتدة والمتكاثرة لم تستطع إزالة تأثير تلك العلامات الكبرى في تاريخ ذلك الصراع.
كما يبهجني جدًا تلك الاستعادة المصرية السياسية العميقة للعلاقة التاريخية مع أرض فلسطين المحتلة.
إذ كان الأمر قد تعقد في العلاقة التاريخية بين مصر وفصائل المقاومة الفلسطينية متمثلة في أبرزها ألا وهي حركة حماس.
وذلك إثر حرب مصر على الإرهاب والتي بدت في ذروتها 2013، لما هو معروف عن علاقة حماس بجماعة الإخوان الإرهابية المحظورة، والتي حاولت اختطاف مصر بقوة السلاح والتهديد والوعيد والإرهاب الفعلي والتلويح بمزيد منه.
وقتها كنت قد كتبت أن معادلات العلاقات السياسية في مصر وجوارها الفلسطيني المحتل قد أخذ مسارًا يصب في مصلحة العدو.
إلا أن القيادة السياسية في مصر أدركت بوضوح مبكر تلك المعضلة، فكان أن أقام الرئيس عبد الفتاح السيسي علاقة طبيعية مع حماس حفظت لمصر مقدرة على احتواء الجوار الحي في غزة، ودورها الهام الإنساني والاقتصادي في المعابر.
وتلك العلاقات المتوازنة قد ساهمت في نجاح الوساطة المصرية في حل خلافات حماس والسلطة الفلسطينية فيما عرف بمفاوضات حل جمع الشمل الفلسطيني.
وعلى صعيد متصل مصر تحافظ على اتفاقياتها التاريخية وتحفظ مواثيقها الدولية، ولذلك تبقى في هذه اللحظة مع التزامها بدورها العربي والإسلامي والمساندة الداعمة التاريخية للقضايا الوطنية هي مركز الثقل في المفاوضات الساعية لإيقاف القتال وشلال الدماء ونزيف العدوان على المدنيين.
وهو الأمر الذي يشير لمقدرة مصر على الفصل التام بين الحرب على الإرهاب في الداخل، وبين الموقف الداعم لمسار الحل العادل للقضية الفلسطينية.
أما عن الأجيال التي تقاتل الآن في غزة فهي أجيال ملهمة جديدة تستلهم انتصار السادس من أكتوبر 1973، لتختار السابع من أكتوبر 2023.
يفصل بين هذه الأجيال وبين أكتوبر العظيم خمسون سنة، هي عمر وجدان عظيم لم ينقطع لحظة عن إدراك معنى النصر.
حقًا وبلا شك تستعيد حرب غزة الآن والدفاع المشروع عن النفس والمقدسات والعرض والكرامة الإنسانية في عملية طوفان الأقصى كل الجهود المصرية والعربية والدولية لاستئناف المسار العادل لحل الدولتين والذي أصبح مجرد أوراق هامدة لا تتحرك قيد أنملة على الأرض الواقعية.
ولذلك ومع تواصل الأجيال تبقى دروس المقاومة والحق المشروع في القضية الفلسطينية تشير أيضًا إلى تاريخ طويل من الفنون والأدبيات المقاومة، وفي القلب منها تعليم الأطفال وتثقيفهم في أدوات القوة الناعمة لمنظومة التحرير الفلسطينية ومنها شاردة بسيطة هامة، وهي فرقة فلسطين لمسرح الأطفال التي أسسها المناضل الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
إن استمرار الفكرة والتاريخ والحقوق والإرادة لأجيال قادمة هي أحد أهم أدوات المقاومة والفعل المؤثر والقدرة على الاستمرار في معركة طويلة بدأت وبقيت وستظل معركة لأجيال قادمة، حتى تحقيق الحل العادل للقضية الفلسطينية.
ولذلك وإذ أثمن الموقف الواضح الوطني لاتحاد النقابات الفنية المهنية برئاسة المخرج المصري عمر عبد العزيز، أدعوه وأدعو القوى الفاعلة في مصر والوطن العربي للكتابة والإعلان والتواصل مع دوائر المجتمع المدني الغربي الذي يدعم بشكل واضح ومتجدد الاحتلال الإسرائيلي عبر القوة العسكرية وغيرها.
ولعل أبرز المطالب العاجلة الآن هي إلزام الاحتلال بفتح المعابر ومعاودة تزويد قطاع غزة والسلطة الفلسطينية والضفة الغربية بالاحتياجات الإنسانية الأساسية، ووقف استخدام القوة المفرطة مع المدنيين في غزة، وهي المطالب التي يجب أن يتم فيها تكثيف كافة الجهود.
إلا أن ما يعود حاضرًا واضحًا الآن هو الموقف الذي يتجدد منحازًا واضحًا لا يرى الأمور إلا بعين واحدة، ولا يقيم لموازين العدل شأنًا في القضية الفلسطينية.
ولعل عودة المعادلات المصرية المستقيمة الواضحة في علاقتها بالمقاومة الفلسطينية تعتبر مسارًا ملهمًا للمراكز الخليجية الجديدة المنخرطة في عمليات سياسة ومعادلات جديدة على الوطن العربي، مع الكيان الصهيوني المحتل للأراضي الفلسطينية.
إذ تبدو السياسة الجديدة في النظام العالمي الجديد ساعية حقًا، لعزل مصر وسوريا والعراق والسودان ولبنان واليمن، وغيرهم من دوائر الوطن العربي عن حواضره العربية في الخليج العربي، والتي تتم محاولة إدماجها في معادلات جديدة مع أدوات فاعلة في المنطقة سعيًا إلى شرق أوسط ما بعد جديد، كما أشارت مجلة الإيكونوميست البريطانية بوضوح إلى ذلك المخطط الاستراتيجي المعلن الواضح الذي يتجاوز مسألة السعي إليه عبر الواقع السياسي إلى الإعلان الواضح عنه دفعًا لليأس ولمزيد من التوترات العربية – العربية.
ولذلك ينبغي أيضًا السعي المصري الصائب ثاقب الرؤية لاستعادة العلاقات الطبيعية والتاريخية بين مصر وتركيا وإيران هو استكمال للمعادلة الصحيحة، والتي تم تغييبها لفترات طويلة، عبر تصورات وهمية ذات نبرة زاعقة لم تسفر عن أي تغيير حقيقي في القضية المركزية للعرب ألا وهي قضية فلسطين، وهو الأمر المهم الذي نعول عليه في الفترة القادمة.
إذ إن الموقف الخليجي الداعم لفلسطين يجب استعادته، كما يجب السعي الخليجي العروبي والإسلامي للعودة للمعادلات التاريخية والثوابت الوطنية جنبا إلى جنب مع مسارات اقتصادية ومصالح جديدة سعت إليها الدول الخليجية الفاعلة.
ولعل العلاقات السعودية الإيرانية التي تستأنف الحوار المباشر هي إشارة دالة للثقل السعودي في استعادة تلك المعادلات التاريخية، كما يظهر ذلك بجلاء في التأني الواضح الراسخ لبلاد الحرمين الشريفين في الانخراط في المعادلات المعكوسة بالغة الضرر لما يمكن تسميته مجازًا الشرق الأوسط ما بعد الجديد.
ولذلك فالسعي الإماراتي الحميد أيضًا في ضخ مساعدات مالية كبرى لقطاع غزة ولفلسطين لهو أمر مبهج في إطار استعادة تلك المعادلات التاريخية.
ولذلك فطوفان الأقصى الذي هو دفاع شرعي بالسلاح للفلسطينيين بأيديهم هم هو علامة فارقة حقًا.
فلن تعود المنطقة العربية إلى ما كانت عليه قبل عملية طوفان الأقصى، كما أنها عملية نوعية فارقة ستؤثر بشكل فاعل على عملية السلام المتعطلة هناك والتي ما زالت مصر تدعمها وتدعو لها ممثلة في حل الدولتين، والقدس الشرقية كعاصمة لفلسطين.
ولذلك يبقى الأثر الواضح على أهمية دروس الثقافة الوطنية للأجيال القادمة، وتبقى ثقافة أكتوبر 1973 حاضرة في الوجدان العربي متمثلة في الامتداد الوطني في السابع من أكتوبر 2023.
فهل تواصل القوى الناعمة المصرية والعربية دورها للحوار مع مراكز صناعة القرار حول العالم، لإيقاف العدوان على المدنيين، ولاستعادة الحل العادل الشامل لقضية العرب المركزية فلسطين؟ هكذا ندعو ونحلم ونتمنى.



