لمن تذهب ثمار النصر؟
في مثل هذه الأيام منذ ست سنوات مضت ربطت جماهير جنودنا العمالية والفلاحية الفقيرة أحزمتها على بطونها، وعبرت القناة بفدائية منقطعة النظير، لتحطم أكبر مانع عسكري عرفه التاريخ وتحقيق أكبر نصر عربي شهدته المنطقة العربية منذ صلاح الدين، وتعيد للعرب كرامة مرغتها في الأوحال سلسلة من الهزائم بدأت منذ عام 1948.
والآن، وبعد مضى هذه السنوات الست، لا بد من وقفة قصيرة مع النفس، وحساب للتجارب السابقة نسائل فيها أنفسنا: أين ذهبت ثمار هذا النصر المجيد؟ هل ذهبت كاملة إلى جيوب هذه الجماهير المقاتلة التي خاضت أكبر معارك شهدتها المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية، أم أخطأت الطريق إليها وذهبت إلى جيوب غيرها؟
ونقول بكل أسف: إن ثمار النصر قد أخطأت الطريق إلى جيوب جماهيرنا، وذهبت إلى جيوب من هم أكثر مهارة في سرقة نضال الشعوب والجماهير.
ونستطيع أن نحدد ثلاث جهات على الأقل تحولت إليها ثمار النصر.
الجهة الأولى: دول البترول العربية الثرية، التي تعيش اليوم أمجد أيام حياتها بفضل انتصارات جنودنا وتضحياتهم بالدماء والأرواح في المواقع الإسرائيلية على خط برليف، لقد كان مطلب استخدام البترول في المعركة القومية مطلبا ارتفعت به أصوات القوى الوطنية في العالم العربي منذ وقت طويل، دون أن يتيسر تنفيذه لضعف الموقف العسكري العربي من جهة، وانخفاض الروح المعنوية من جهة أخرى، ولكن عبور قناة السويس في ست ساعات، وسقوط خط برليف قلب الموقف العسكري رأسا على عقب وقفز بالروح المعنوية إلى ذراها، فأقدمت العراق على تأميم حصة شركتين أمريكيتين في اليوم التالي لاندلاع القتال، وبعد ثلاثة أيام وجهت الكويت الدعوة إلى عقد اجتماع طارئ للدول العربية البترولية، وبعد أسبوع واحد عقد هذا المؤتمر وقرر تخفيض إنتاج البترول بنسبة لا تقل عن 5 في المائة، وفي اليوم التالي 17/10 أوقفت إمارة أبوظبي تصدير بترولها إلى الولايات المتحدة، وفي اليوم التالي خفضت المنصة السعودية إنتاجها بنسبة 10 في المائة.
على أنه منذ يوم 16 أكتوبر، بدأت بعض الدول العربية المنتجة للبترول في الاستفادة من المعركة العسكرية في زيادة مواردها من عائدات البترول، فقررت دول الخليج الست رفع سعر برميل البترول إلى 3٫65 دولار، بزيادة قدرها 17 في المائة.
وفي يوم 19 أكتوبر قررت الجمهورية الليبية رفع سعر البرميل من 4٫604 دولار إلى 8٫925.
وفي اليوم نفسه رفع العراق سعر البرميل من 2٫977 دولار إلى 5٫069 دولار، وعاد العراق بعد أسبوع واحد- أي في يوم 25 أكتوبر- ليرفع سعر البرميل المصدر من موانئ البحر المتوسط إلى 7٫243 دولار.
ولم يلبث هذا الاتجاه إلى الاستفادة من المعركة في زيادة الموارد المالية العائدة من البترول، أن أكده العراق يوم 12 نوفمبر، حين قرر مؤتمر وزراء دول الخليج، السعودية والكويت وقطر وأبو ظبي والعراق خفض إنتاج البترول بنسبة 25 في المائة عما كان عليه في شهر سبتمبر، مع استثناء الدول الصديقة من هذا الخفض، للضغط على الدول المؤيدة لإسرائيل لتغيير موقفها بشكل محايد، ولكن العراق عارض هذا القرار بالخفض، بحجة أن البترول يجب أن يكون سلاحا عادلا يسيء إلى الخصوم ويكسب الصداقات.
ولكن العراق في الحقيقة كان يسعى إلى الاستفادة من المعركة في زيادة موارده، لظروفه الخاصة.
وفي يوم 22 ديسمبر 1973 قررت دول الخليج رفع دخلها من سعر البرميل إلى 10 دولارات، أي يصل سعر البرميل إلى 11٫65 دولار، وبعدها بأيام قليلة قررت ليبيا رفع نصيبها إلى 10 دولارات، فأصبح سعر البرميل 15٫76 دولار.
وبالنسبة لاستخدام سلاح البترول في المعركة، ففي 1- 7 ديسمبر 1973 قرر مؤتمر وزراء البترول المنعقد في الكويت رفع خفض الإنتاج والعودة إلى ما كان عليه في شهر سبتمبر 1973 قبل المعركة.. وذلك ابتداء من شهر مارس 1974.
وفي يوم 18 مارس 1974 أعلنت معظم الدول العربية في مؤتمر فيينا رفع الحظر البترولي عن الولايات المتحدة.
وفي 24 مايو أعلنت الجزائر أنه قد حان الوقت لرفع الحظر عن هولندا والدنمارك، ونفذت ذلك بالفعل من يوم 6 يونيو.
ومنذ ذلك الحين انتهى استخدام سلاح البترول في المعركة، ولم يكن قد مضى على معركة أكتوبر أكثر من ستة أشهر، وأصبح في خدمة الأهداف الإقليمية للدول العربية المنتجة للبترول، فتضاعف سعره أربع مرات، وتضاعفت أرصدة الدول البترولية في بنوك الولايات المتحدة والغرب، ونشأت مشكلة الطاقة التي هي بعيدة كل البعد عن المعركة، وإنما مرتبطة، بالصراع بين الدول المنتجة والمستهلك ة للبترول على زيادة الأسعار!
وإذا كان من حق الدول العربية المنتجة للبترول دون منازع أن تستفيد من معركة أكتوبر في استرداد سيادتها على بترولها وزيادة مواردها لاستخدامها في تعويض التخلف، إلا أنه كان من حق شعب مصر الذي خاض المعركة العسكرية وفتح الطريق إلى هذه الآفاق الفلكية من الأرصدة، المالية لدول البترول، أن يعوض عن هذه العائدات البترولية بعض ما فقده من موارده الذاتية في الإعداد لهذه المعركة والمعارك الأخرى التي خاضها على طريق نضاله الطويل.
فهكذا كانت تتطلب قومية المعركة، ولكن الأمور مضت على نحو مخالف، فقد انصرفت الدول العربية البترولية إلى جني ثمار النصر وحدها، وتنمية قدراتها الاقتصادية، بل تكديس السلاح في مخازنها بما يفوق قدراتها القتالية، وتركت شعب مصر يعاني أخطر أضرار حالة اللا حرب واللا سلم.
ثانيا: كانت الجهة الثانية التي حصلت على جزء مهم من ثمار نصر أكتوبر هي الولايات المتحدة، ففي الوقت الذي كانت مصر تعاني من قلة المصادر التمويلية لبنائها الاقتصادي، كانت خزائن الولايات المتحدة ومصارفها تعمل وتزدحم بالأرصدة العربية التي تدعم الاقتصاد الأمريكي، والتي تتضخم باستمرار مع تزايد سعر البترول.. وفي الوقت نفسه، ومع انحسار سلاح البترول كعنصر من عناصر المعركة، واكتشاف عدم جدية العرب في خوض معركة أخرى مع إسرائيل، بدأ دور الاتحاد السوفيتي في التقلص، نظرا لأن هذا الدور يشتد بالدرجة الأولى مع احتمالات الصدام والحاجة للسلاح، ويضعف مع احتمالات التسوية لانعدام تأثيره على إسرائيل، وبرز دور الولايات المتحدة باعتبارها الدولة الوحيدة التي تملك حق الضغط على إسرائيل، وبذلك عاد الدور الأمريكي إلى المنطقة العربية أكثر قوة ونفوذا وتأثيرا، وحققت بنصر أكتوبر ما لم تحققه بهزيمة يونيو 1967.
ثالثا: أما القوى الثالثة التي ذهبت إلى جيوبها ثمار نصر أكتوبر، فهي الرأسمالية المصرية، وكانت القيادة المصرية، من منطلق حرصها على تكاتف كل القوى الوطنية في عملية البناء بعد حرب أكتوبر وما خلفته من آثار، قد رأت أن تفسح المجال لرأس المال الخاص ليلعب دوره في التنمية، وقد عبر الرئيس السادات عن ذلك في ورقة أكتوبر قائلا:
لا بد أن نقر بأننا لم نف دائما باحتياجات القطاع الخاص، ولم نوفر له الظروف التي تشجعه على مضاعفة نشاطه الإنتاجي، ثم إن تعاقب القرارات والتصرفات المتناقضة، بشأنه قد عطل فاعليته كطاقة إنتاجية فصرفه إلى استثمارات طفيلية أو أوجد لدى أصحابه أنماطا استهلاكية صرفة حين كانوا لا يجدون سبيلا إلى استثمار ما لديهم في إنتاج مستقر، وقد آن الأوان لأن تختفي هذه الظروف نهائيا، وأن يجد القطاع الخاص من الاستقرار الفعلي والتشجيع، ما يشجعه على الاندفاع بأقصى ما لديه في مجال الإنتاج وسد حاجات المجتمع.
وبناء على هذا المنطق، بدأت الأبواب تفتح أمام رأس المال الخاص ليشارك في مجال الإنتاج وسد حاجات المجتمع، ولكن رأس المال الخاص بدلا من المشاركة في البناء، أخذ يبدد طاقته الإنتاجية في مجالات الاستثمار العقاري الفاخر والتجارة وأعمال المقاولات والمشروعات السياحية والاستيراد والتصدير وجميع المجالات الطفيلية التي تحقق له عائدا سريعا ولا تخدم الاقتصاد القومي كما يخدمه التصنيع ومجالات الإنتاج الأخرى، وبدلًا من أن يتنافس مع القطاع العام على خفض الأسعار، جر القطاع العام معه إلى رفع الأسعار، كما أصبح يشكل قوة استهلاكية كبيرة تبدد جهود الدولة في توفير السلع للجماهير العمالية والفلاحية، وبدلا من أن يؤدي دوره في تمويل خزانة الدولة بالضرائب المستحقة عليه، أخذ يتفنن في التهرب من هذه الضرائب، ما أدى إلى انخفاض موارد الدولة.
وهكذا قبض رأس المال الخاص ثمار نصر أكتوبر.
ومن الأمور ذات المغزى أن الرئيس السادات قد تنبه منذ البداية لخطر هذا التحول، وحذر الأمة من مغبته في خطابه التاريخي يوم 14 إبريل 1975 فقال:
«لاحظت بكل أسف، وأكرر بكل أسف، أن هناك ثروات تتراكم، ويجيء تراكمها في معظم الأحيان من أعمال طفيلية، وأريد هنا أن أقول بصراحة إنني لست ضد أن يكسب أحد بجهده ما يستحق، لكنني على وجه اليقين ضد أن يكسب أحد على حساب غيره من الناس، أو استغلالا لظروف الناس.
وأريد أن ألفت النظر بوضوح إلى أننا لسنا مجتمعا لأصحاب الملايين، وإنما نحن مجتمع للعاملين المنتجين، إن هذا المجتمع لن يعود، مهما حدث، إلى حالة كان فيها قبل الثورة يوم أن كان نصف في المائة فقط من السكان يحصلون وحدهم على نصف الدخل القومي، ذلك فساد لا أقبل به، وذلك إفساد لا يقبل الشعب به، وسوف أقاومه وسوف يقاوم الشعب معي.
لقد أحسست أن موجة غلاء الأسعار قد زادت على كل حد يمكن احتماله، وفي كثير من المناقشات التي أجريتها أخيرًا فلقد كنت أقول لبعض مساعدي: تعالوا، فقولوا لي: كيف تستطيع عائلة متوسطة الدخل، فضلا عن عائلة فقيرة، أن تعيش وأن توازن حياتها؟
إنني أفهم أن موجة ارتفاع، الأسعار هي موجة عالمية، لكنني لا أريد أن تكون عالمية موجة ارتفاع الأسعار ساترًا تخفي وراءه أسباب قصورنا ونكتفي بإبداء العذر عن إيجاد الحل!
أليس هذا الكلام للرئيس السادات في إبريل 1975 أقوى من أي صوت معارضة يرتفع الآن؟!
روزاليوسف العدد 2678



