
حرب أكتوبر ثورة في التكنولوجيا العسكرية ونقطة تحول في الصراع العربي الإسرائيلي

تقرير: محمود عزمى
«لقد وجهت «حرب رمضان» في أكتوبر 1973 إلى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، الراضية عن ذاتها بشكل متزايد، أكبر صدمة تلقتها منذ وجودها، فقد فاجأتها الجيوش العربية، التي اعتقدت بعدم قدرتها على شن الهجوم، ولم تعمل خطط التعبئة بصورة فعالة، وللمرة الأولى منذ 1948 وجد الإسرائيليون أنفسهم يخوضون معارك دفاعية يائسة وفضلا عن ذلك، فقد اكتشفوا أن عقائدهم التكتيكية التي كانوا يعتمدون عليها، والموضوعة على أساس التعاون المشترك بين الطائرة والدبابة، قد خربت على نحو خطير بواسطة الصواريخ الموجهة الجديدة، ولقد كانت هذه الأسلحة متاحة لكلا الطرفين، ولكن العرب كانوا أكثر تبصرا فى استيعاب مزاياها».
هكذا تناول الكاتب الاستراتيجى «تشارلس هولي» تأثير حرب أكتوبر على المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، التي كانت ومازالت غارقة فى أوهام غطرستها العنصرية، وذلك فى مستهل دراسته، المنشورة فى مجلة «ذى ميدل إيست» الصادرة فى سبتمبر 1977 بلندن، والتي تحمل عنوان «إسرائيل في أجرانات».
وهكذا يتأكد لنا أن حرب أكتوبر المجيدة مازالت، وستظل لفترة طويلة، موضع اهتمام مستمر ومتزايد لدى الكتاب والمعلقين العسكريين والاستراتيجيين في مختلف دول العالم، رغم انقضاء أربع سنوات على أحداثها.
«العرب كانوا أكثر استيعابا للتكنولوجيا»
وقد نشر معهد الدراسات الاستراتيجية البريطاني في صيف 1976 بحثا بعنوان «تكنولوجيات الأسلحة الجديدة»، كتبه المدير المساعد للمعهد «ريتشارد بورت» ، تناول فيه أثر حرب أكتوبر على تطور الأساليب القتالية والاستراتيجية العسكرية عامة، من زاوية أنها دشنت عمليا بداية عصر جديد من الحروب المعتمدة أكثر فأكثر على التطور التقنى الحديث في مجال الأسلحة والمعدات العسكرية، الذي يزيد إلى درجة كبيرة، من قوة وفاعلية ودقة النيران، مع تقليل واضح فى القوى البشرية المستخدمة لهذه الأسلحة والمعدات، وفى كمية هذه الأسلحة وذخائرها، وحول هذا قال الباحث الاستراتيجي المذكور:
هناك تطور مفاجئ فى التكنولوجيا يحدث الآن يتناقض مع حقيقة أن الأسلحة التقليدية تتطور باستمرار منذ الحرب العالمية الثانية.. ذلك لأن كثيرا من التقنيات التي «أثبتت» والمفاهيم التي «استوعبت» فى حرب 1973 في الشرق الأوسط، كانت موجودة أو تم استنباطها مبكرا منذ عقد من الزمان.. ولكن صدمة القتال الفعلى في الشرق الأوسط.. أيقظت اهتماما جديدا فى استغلال تقنيات السلاح التي كثيرا منها ليس بالضرورة جديدا فى حد ذاته!
ويؤكد رأى «ريتشارد بورت» ما يقوله «تشارلز هولى» فى مجلة «ذى ميدل إيست» من أن الأسلحة المعتمدة على التكنولوجيا الحديثة مثل الصواريخ الموجهة ضد الدبابات والطائرات، كانت متاحة لكلا الطرفين قبل الحرب، ولكن العرب كانوا أكثر «تبصرا» فى إدراك واستيعاب القدرات التكتيكية والتقنية الكامنة فى هذه الأسلحة والمعدات الحديثة، ولذلك بادروا إلى الاستفادة منها فى الحرب المذكورة، مثبتين بذلك مدى الزيف أو المبالغة الكبيرة، فى المزاعم الإسرائيلية والصهيونية العالمية حول اتساع الفجوة فى مجال التكنولوجيا والتقدم العلمي بين إسرائيل والعرب، التي طالما ترددت إعلاميا منذ هزيمة 1967.
ولقد أدى استيعاب القوات المسلحة المصرية والسورية لتقنية الأسلحة الحديثة، ذات القدرة الكبيرة على الإصابة منذ الطلقة الأولى وبفاعلية نيران فاعلة للغاية «مثل صواريخ موليتكا» الموجهة ضد الدبابات وصواريخ «سام 6» الموجهة ضد الطائرات وكذلك رشاشات «شيلكا» الموجهة بالرادار ضد الطائرات، أدى إلى رفع القدرة الهجومية لها.. نتج عنه تقليل فترة تواجد الطائرات والدبابات الإسرائيلية فى ساحة القتال، وهكذا انفرط عقد ثنائى «الطائرة - الدبابة»، الذي شكل جوهر العقائد التكتيكية الإسرائيلية، التي كانت تعتمد عليها استراتيجية «الحرب الخاطفة» الإسرائيلية منذ حرب 1967.
وحول هذه النتيجة، التي أكدتها الكفاءة العسكرية العربية فى أكتوبر 1973، قال الكاتب العسكرى الأمريكى «جفرى ريكورد» في مقال نشرته المجلة العسكرية الأمريكية «ميليترى ريفيو» في عدد إبريل 1976٬: «كانت الضحية البارزة في حرب أكتوبر هى «الحرب الخاطفة» وفي الحقيقة فإن الشىء الوحيد المهم المستخلص من الحرب، هو عودة تفوق الدفاع التكتيكى على الهجوم التكتيكى بصورة نهائية، وهذا هو التعليل الحقيقى لنجاح المصريين فى إيقاف الهجوم المضاد الرئيسى الذي شنته إسرائيل فى سيناء. ويعزى هذا التطور بدرجة كبيرة إلى ازدياد عدد الأسلحة، ذات التكاليف القليلة نسبيا والبسيطة والدقيقة، القادرة على تدمير مركبات القتال المدرعة والطائرات.
ثم يقول: «إن نسيان الإسرائيليين لمضمون الثورة التي كانت تحدث فى قوة النيران - والمتمثلة فى ظهور الأسلحة الموجهة بدقة والتي يمكن إنتاجها واستخدامها على نطاق واسع - كان واضحا فى الجيش الإسرائيلى الذي استمر في زيادة عدد وحدات الدبابات على حساب المشاة المحمولة والمدفعية، والذي رفض بدوره عرضا أمريكيا لصواريخ «تاو» قبل حرب أكتوبر، ولذلك سارعت إسرائيل أثناء الحرب، وبعدها، لطلب كميات كبيرة من صواريخ «تاو»، المضادة للدبابات من الولايات المتحدة، ونقلتها إليها طائرات الجسر الجوى الأمريكى، وهكذا أثبت الجندى العربي، المصري والسوري خاصة «بحكم مجابهتها المباشرة للعدو الإسرائيلى»، الحقيقة العسكرية التي طالما تاهت عن الأذهان بعد هزيمة حرب 1967 المريرة، وهي أن السلاح يستمد قيمته أساسا من الإنسان وليس العكس، أي السلاح بالإنسان وليس الإنسان بالسلاح، وهذا ما أثبتته بنجاح العسكرية العربية في حرب أكتوبر.
الاستراتيجية العربية أساس النجاح
وكان نجاح العسكرية المصرية، والعربية عامة، فى الاستخدام الهجومى الكفء، لأسلحة متطورة تقنيا ذات طبيعة دفاعية أساسا، راجعا ليس فقط للاستيعاب التكنيكي والتكتيكي من جانب الجنود والضباط والقادة العسكريين، المصريين والسوريين، وإنما أيضا، وفي ارتباط وثيق وعلاقة متبادلة التأثير لا غنى عنها، بالخطة الاستراتيجية العامة، سواء على المستوى العسكري المباشر، أو على مستوى الاستراتيجية العليا المقررة للحرب.. وفضلا عن ذلك فإن اختيار استراتيجية عليا ملائمة لحقيقة القدرات العسكرية العربية ولحدود موازين القوى العملية القائمة محليا ودوليا، كان هو الإطار الموضوعي الشامل للعمل العسكرى العربى، الذي ساعد على تجلى فاعلية الاستيعاب التكنيكى والتكتيكي للأسلحة الحديثة المتطورة التي استخدمها الجيشان المصري والسورى فى حرب أكتوبر. وهذا اعترف به الجنرال «يسرائيل تال» أحد كبار القادة الإسرائيليين فى حرب 1967، والذي يلعب دورا هاما فى تطوير الجيش الإسرائيلى حاليا من حيث نظريته الأمنية وتنظيماته القيادية وعقائده التكتيكية، إذ كتب فى مقال نشرته صحيفة «عل همشمار» فى 31/12/76: «لقد أدرك العرب أنهم غير مؤهلين لإحراز حسم ضد إسرائيل بضربة عسكرية واحدة.. وتعلموا كيف يفكرون ويستخلصون العبر العقلانية من التجربة.. لقد أدرك العرب أن الحرب هى قضية شاملة، وللعنصر العسكري دور جزئي ضمن إطارها العام.. لقد أدرك الفكر العربي العقلانى الحديث، عن حق، أن تأجيل الحرب هو بمثابة وضع خطر للغاية، كما أن المجموعة الدولية أخذت تعتاد الواقع جديد فى الشرق الأوسط، لقد نصت الاستراتيجية العربية الجديدة على وجوب تفضيل إحراز فورى لأهداف عسكرية محدودة على السعى إلى إحراز أهداف شاملة فى وقت لاحق، وقد اعتبر العرب أن مجرد وقوع الحرب هو هدف وضمانة لإحراز الأهداف الشاملة أى أن الحرب تخلق ديناميكية سياسية، وتضطر الدول العظمى إلى التدخل، ومن ثم يمارس ضغط دولى على إسرائيل.. وهكذا، فى الوقت الذي كنا خلاله غارقين فى سبات عميق، بين حرب الأيام الستة وحرب يوم الغفران، كان العرب يعدون خطة لحرب شاملة مفصلة بحسب قياسهم.. لقد بقينا سلبيين إزاء الخيار الذي واجه العرب بين الديناميكية السياسية وبين الحرب».
وبطبيعة الحال فإن «تال» وغيره من القادة الإسرائىليين، لا يقول هذا الكلام ويعترف بتلك الحقائق الموضوعية التي أثبتتها حرب أكتوبر لمجرد الاعتراف بالمنجزات العسكرية العربية والإشادة بها، وإنما يسعى من خلال ذلك التحليل العقلاني الموضوعي لعبرة الحرب.. إلى كشف النواقص والأخطاء الاستراتيجية والتكتيكية التي وقعت فيها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.. والقيادة السياسية، ولكن الإرادة العربية، العسكرية والسياسية، ستظل قادرة على ممارسة «حوار الإرادات الاستراتيجى»، بينها وبين إسرائيل بنجاح، طالما ظلت تعمل وتخطط لعملها السياسى والعسكرى، وهما وجها عملة، استراتيجية واحدة ، مستهدية بروح حرب أكتوبر، وما سبقتها من حروب عربية إسرائيلية.
روزاليوسف العدد 2574