عاجل
الأربعاء 27 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
كلنا نلعب كلنا إنسان.. قراءة في الأغاني الشعبية المصرية

كلنا نلعب كلنا إنسان.. قراءة في الأغاني الشعبية المصرية

في تأمل متصل لعالم الأغاني الشعبية المصرية ذات الارتباط الوثيق بعالم الألعاب الشعبية المصرية.



وفي ظل تراجع في الألعاب الشعبية وأغانيها لدى الأطفال مما يشكل تهديدًا لرافد مهم من روافد تكوين الهوية لدى الأطفال الجدد في مصر.

وفي بحث متصل عن الكتب الأصول، أو بتعبير آخر عن أمهات الكتب في هذا الموضوع، عثرت على كتاب مهم صدر عام 1967 في مصر، وقد بدا لي كتابًا للمقاومة من أجل تماسك النسيج الاجتماعي المصري.

إنه كتاب بهيجة صدقي رشيد وعنوانه "أغان وألعاب شعبية مصرية للأطفال".

وهو كتاب بسيط جدًا في محتواه هو جمع لعدد من الأغنيات الشعبية المصرية ذات الصلة بعالم الألعاب، مصحوبة بالنوتة الموسيقية الدقيقة والتي يتم بها تسجيل طبيعة اللحن الموسيقي المعبر عن الكلمات.

وهذا الكتاب على بساطته حاز الدرجة الشرفية Honorable Mention في المسابقة الدولية السنوية للفنون الشعبية لسنة 1966، والتي تقيمها جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية.

أما لماذا تهتم جامعة أمريكية آنذاك بتنظيم مسابقة دولية في هذا الشأن؟

وفي ظل الصراع المحتدم مع الاتحاد السوفيتي في ظل الحرب الباردة آنذاك وسعي أمريكا لدور وتأثير كبير حول العالم؟

الإجابة تأتي من تصور بسيط هو فكرة عالمية اللعب.

قل لي كيف يلعب أطفال مجتمع ما؟ أحدد لك مساره المستقبلي.

ولذلك ترى بهيجة صدقي رشيد بتأملها الجاد لتلك الأغنيات الشعبية وأهميتها أنه: 

"إذا نظرنا نظرة دقيقة إلى هذه الأغاني والألعاب يتبين لنا مدى مشابهتها لكثير من مثيلاتها في البلاد العربية الأخرى.

فلعبة الكرة بأنواعها المتعددة "والحجلة" و"نط الحبل" وألعاب الجري والقفز والسباق.

كل هذه تعد قاسمًا مشتركًا بين جميع أطفال العالم.

ومن الألعاب ما تكاد تكون صورة طبق الأصل لغيرها في البلدان الأخرى.

"فلعبة الثعلب فات" ولعبة "يا محيلة حلي حلي" كلتاهما لهما مثيلتان في فرنسا.

وغير ذلك أمثلة عديدة.

كما تتأمل بهيجة صدقي الصياغات اللحنية لتلك الأغنيات، لتراها أيضًا تتشابه مع الصياغات اللحنية التي ذكرها العلامة الألماني كورت زاكس "نهضة الموسيقى في العالم القديم شرقه وغربه".

وهو الكتاب الذي يحدد على لسان صاحبه كورت زاكس تلك المقولة الأشهر حول العالم الآن في الحديث عن الموسيقى والغناء فهو يرى أن: "روح الأغنية هي روح شعب بأكمله".

وفي الكتاب ترد أغنية مصرية أصيلة تعبر عن الاتصال التام بين مصر والحجاز كمثال، كتعبير عن تواصل الشعوب العربية قبل مفاهيم سياسية حول الوحدة العربية ثم محاولات تفتيتها عبر محاولات عدة لإعادة رسم خريطة العالم العربي من جديد.

هنا مقص وهنا مقص            وهنا عرايس بتترص 

هنا بنت حجازية            شعرها ضاني ضاني 

لفيته على حصاني            وحصاني في الخزانة 

والخزانة بلا سلم                والسلم عند النجار 

والنجار عاوز مسمار        والمسمار عند الحداد 

والحداد عاوز بيضة            والبيضة عند الفرخة 

والفرخة عاوزة قمحة            والقمحة عند التاجر 

والتاجر عاوز فلوس        والفلوس عند الصريف 

والصريف عاوز لبن            واللبن عند البقرة 

والبقرة عايزة برسيم            والبرسيم فوق الجبال 

والجبال عايزة عصافير    والعصافير دي في الجنة 

والجنة عايزة حنة                والحنة آه في أيديكم

          ضربة تكور عينيكم

وبتحليل تلك الأغنية تحليلًا أوليًا مبسطًا، تجد أن الطفل المصري والطفل الحجازي يلعبان ويمرحان سويًا.

وهو الأمر الذي يفسر سيولة الحدود وتمازج الأفراد في محبة وندية وبهجة اللعب.

كما يمكن أيضًا تأمل غياب التفرقة بين البنت والولد، فالموصوفة بالشعر الناعم الطويل فتاة حجازية وربما كان ذلك إشارة لقناة مصرية تحمل صفات ذلك النوع من الشعر الفاحم الأسود الطويل الذي يمكن أن يلفه اللاعب كما تشير الأغنية إلى حصانه ولذلك هي أغنية ترسخ لمفهوم وحدة مصر والحجاز، وترسخ للنظرة الحضارية التي تفهم غياب التمييز بسبب النوع.

فالفتيان والأولاد يلعبون سويًا.

أما عن النظرة التي تبدو ذات طابع تتابعي سببي في مسألة أن النجار يريد مسمارًا، وأن المسمار عند الحداد، وأن الحداد يريد بيضة، والبيضة لدى الدجاجة وهكذا، إلى أن نصل لأن البرسيم فوق الجبال والجبال تريد العصافير، والعصافير تلك في الجنة.

فهي ليست ذات طابع عبثي يحيل كل شيء إلى شيء آخر.

إنما هي تحمل تلك الصلة المنطقية لاحتياج البشر لبعضهم البعض.

ولفكرة التشاركية المجتمعية وإدراك أن الإنسان لا يعيش مكتملًا بذاته، مما يعزز روح قبول الآخر والتعايش معه والتفاعل الاجتماعي الخلاق.

ولا يمكن لأي متأمل للأمر أن يتجاهل أن الحل في النهاية هو حل في يد عصافير الجنة.

وهو حل خيالي جدًا يفتح آفاقًا واسعة لتصور يتأمل مدى قدرة المخيلة الشعبية على صنع الصور الشعرية السهلة البسيطة ذات الطابع العبقري.

ولأن العصافير تريد "الحنة" والحنة في أيديهم، فمنع هؤلاء المجهولين المخاطبين بالغناء لإعطاء الأطفال الحنة هو السبب في الدوران في دائرة مفرغة لا تنتهي، بينما يستطيعون (أي الآخرين) منح العصافير والعصافير هنا هي عصافير الجنة.

وهكذا تبقى عبقرية الغناء الشعبي المصري وألعابه الشعبية للأطفال حاضرة لكل متأمل باحث عن المتعة وعن فهم المخيلة الشعبية المصرية.

ولذلك امتدت تلك الأغنيات وما يصاحبها من ألعاب عبر الأزمان والعصور.

بعض من تلك الأغنيات استلهمها كبار الشعراء والفنانون لتطويرها وتحديثها في مختلف الأعمال الفنية.

السؤال الآن، وهو السؤال الهام: 

متى يعود للكتاب الأم كتاب د. بهيجة صدقي رشيد الصادر عن دار نشر عالم الكتب، ومن يعود لما تم جمعه من أغان وألعاب فيما بعد؟ وكيف يمكن خروجًا من عالم الألعاب الإلكترونية، ومن تحويل تلك الأغنيات والألعاب إلى مشاهد غنائية استعراضية مصورة يشاهدها الجمهور عبر الشاشات المختلفة، والاستفادة من ذلك التراث الحي العبقري؟

جدير بالذكر أن ما يشجعني للاهتمام مجددًا بموضوع الأغنيات الشعبية والألعاب المصاحبة لهما هو استمرار اهتمام جيل معاصر بها. ويبرز من بين المعاصرين الدارسين لهذا الموضوع باحثة لامعة هي د. إيمان مهران والتي تعترف بأن أصل التفكير الجاد في كون مفهوم الغناء واللاعب الشعبي للأطفال هو تعبير عن الهوية المصرية واتصالها عبر الفعل الإنساني المشترك بالهوية الإنسانية العالمية، لهو تفكير يعود إلى د. بهيجة صدقي رشيد.

أما حفيدتها الفنانة التشكيلية إيمان مهران فهي تواصل ذلك الدور في كتابها الألعاب الشعبية في مصر، وفيه تتحدث عن اللعب الشعبي كأحد أعمدة الهوية المصرية، وهي أيضًا تراه بمفهوم أشمل، كون اللعب لغة عالمية، إذن أننا كلنا نلعب كلنا إنسان.

ولذلك فعلينا أن نفكر جديًا في المؤسسات الثقافية والتعليمية والرياضية الرسمية والمستقلة والخاصة في مصر، في التفكير الجاد في العودة الفعلية التطبيقية لتلك الأغنيات الشعبية المصرية وألعابها.

وذلك عبر إدماجها في برامج على أرض الواقع تتيح للأطفال ممارستها الواقعية والاشتراك بها مرحًا وفهمًا ودعمًا للتربية النفسية والبدنية السليمة، وانفتاحًا على عالم اللعب الذي يعزز الهوية ويجعلنا أكثر ارتباطًا بالإنسانية.  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز