

د. حسام عطا
الفكر العربي في عقدين 2000 – 2020 … والتقرير العربي الثاني عشر للتنمية الثقافية...
بدعوة كريمة من المجلس الأعلى للثقافة في مصر بأمانة د. هشام عزمي، تابعت بكل اعتزاز وتقدير فعاليات مؤسسة الفكر العربي بشأن إطلاق التقرير العربي الثاني عشر للتنمية الثقافية، وذلك في مقر المجلس بالقاهرة في الفترة من 18 : 19 سبتمبر 2023. وإذ تقدر القاهرة الدور الهام الذي تمارسه وتستهدفه مؤسسة الفكر العربي، فهي تحتضن تلك الفعاليات تقديراً لفهم المفكر والسياسي العروبي خالد الفيصل مؤسس الفكر العربي والداعم لها مع مجموعة من أهل المال والفكر في الوطن العربي.
وإذ تعتز المؤسسة كما جاء على لسان د. هنري العويط بمصر ودورها الفاعل وريادتها الثقافية وحضورها المستمر، كما جاء في كلمته الافتتاحية في الملتقى الهام فقد سعت المؤسسة لإطلاق تقريرها الفكر العربي في عقدين 2000 – 2020، من القاهرة.
ولعل أهم وأبرز الأفكار التي دارت على مدار اليومين المخصصين لذلك جاءت في معظمها حول الثوابت التاريخية للوطن العربي تعزيزاً للمشتركات الأساسية العربية، وتحفيزاً لإعادة التأمل في مفهوم الدولة الوطنية في إطار فكرة العروبة، استنهاضاً بصوت ذلك الفهم العروبي القائم على اللغة والهوية والمصالح التاريخية والمعاصرة والمستقبلية.
ولعل ذلك الحضور لمفهوم الهوية والمشتركات الأساسية والذي دعمه المؤتمر يعد أبرز العناصر التي دار حولها الحوار والتفكير والتأمل والبيانات والمعلومات بل وتميز ذلك الحضور بصوت عاطفي خاص.
ويأتي هذا التقرير الهام الذي يتوزع على محاور خمسة، تدور حول واقع الفكر العربي وتحولاته في السنوات العشرين الماضية، ساعية انطلاقاً من تحدياته إلى النظر نحو المستقبل.
وجاءت المحاور تباعاً بالمجال السياسي، فالفلسفي، فالاجتماعي، والتربوي، فالرقمي، فالاقتصادي وتجاهل التقرير- وهو أمر مدهش- التأمل في مجال الفنون التعبيرية العربية على أهميتها وقدرتها على التأثير في الجمهور العام.
إلا أن هذا الحضور الدافئ للمثقفين والكتاب والمفكرين المصريين والعرب وحماسهم وطرحهم المهتم للأسئلة لهو في حد ذاته دليل على أن الثقافة العربية ما زالت هي الحاضنة والرافعة والمحرك الفاعل القادر على انتشال العالم العربي من أزماته في ظل انكفاء مشروعات الوحدة العربية، واشتعال الحروب الأهلية، وتنامي العنف والإرهاب واحتدام المواجهة بين الأعراق والإثنيات والقبائل والعشائر والطوائف.
وإذ حرص المفكرون العرب على الإشارة لحيوية الدولة الوطنية في مصر وقدرتها على الحفاظ على مكونات الهوية المصرية وانسجام المكونات المجتمعية في إطار يفهم الممارسة الجماعية للعلاقة الطبيعية بين المجتمع المصري والدولة الوطنية وهى علاقة تاريخية مستقرة منذ تاريخ طويل.
ولعل أبرز ما جاء من الملاحظات الهامة والتي استخلصتها من متابعتي للجلسات الحوارية الثرية هي ملاحظات يمكن إجمالها في عدة نقاط وهي:
أولاً: ضرورة العمل على حل معادلة الأمن والاستقرار مقابل الحرية السياسية، سعياً نحو نضج مسؤول لمفهوم الحرية يسمح للدول الوطنية المستقرة في الوطن العربي بالدخول لمرحلة الحصول على الأمن والحرية والاستقرار معاً، وهي مسألة مرهونة بقدرة المجتمع على الدفع السلمي الطبيعي والمتدرج في هذا الاتجاه مع حضور الإرادة السياسية للدولة.
ثانياً : ضرورة السعي العربي المشترك لاحتواء الفتن والحروب الأهلية والتداعيات المسلحة في الدول العربية التي تتعرض لتلك التهديدات سعياً للحفاظ عليها ولحماية الحدود المشتركة من التهديدات الخطرة، ولإيقاف حالة التهديد الوجودي لتلك الدول الشقيقة محل تلك النزاعات، حفاظاً على الأمة العربية ككل، خاصة أن تلك الدول هي دول تاريخية وتملك حضارات قديمة مستقرة.
ثالثاً : النظر وفقاً لمفهوم المصالح المشتركة لضرورة العمل العربي المشترك لمقاومة المفاهيم الجديدة للتكتلات الإقليمية، وإدراك أن تصاعد الدور الصيني على الصعيد العالمي ليس صراعاً قطبياً جديداً مع الولايات المتحدة الأمريكية ولكنه سباق اقتصادي معرفي، وليس صحيحاً تماماً أنه يهدد مفهوم العولمة المستقر منذ عقود مضت.
فالفهم الرأسمالي للاقتصاد العالمي، مع الأطراف والقوى المتصاعدة كمراكز متعددة حول العالم، لا يزال يستهدف السوق العالمي. رابعاً : ضرورة إدراك أن القيم الثقافية للحداثة وما بعدها والتي ساهم في نشرها المركز الغربي الأمريكي، قد صارت قيماً عالمية تمنتها معظم المجتمعات حول العالم.
بل وتم إعادة إنتاجها عبر مفهوم محلية العولمة، وحديثي هنا يتعلق بالثقافة والسلوك والعادات الاجتماعية، إذ إن الحضارات القديمة حول العالم قد أعادت إنتاج العولمة وفقاً لخصوصيتها الثقافية.
وأحد الأمثلة الواضحة الدالة على ذلك هو اليابان في آسيا، ومصر في مركز العالم العربي.
ولذلك فالمراكز الإقليمية والتكتلات الاقتصادية الجديدة مثل "البريكس" على سبيل المثال، لن تنجح في فرض عزلة إقليمية على التجمعات الجديدة، لأن الشبكة الدولية للمعلومات، وعالم المال والأعمال وحركة وسيولة الفنون التعبيرية والإنتاج الفكري، سيستمر في جعل العالم قرية واحدة، وإن تعددت المراكز الاقتصادية الجديدة.
خامساً : ضرورة الحذر كل الحذر من الصياغات الجديدة التي تتعامل مع الواقع المشتعل للوطن العربي لعزل الخليج العربي عن محيطه العروبي الداعم، سواء بدعوى الإقليمية أو الشرق الأوسط الجديد أو دعنا نسميه الشرق الأوسط ما بعد الجديد.
سادساً : ضرورة حضور الخيال السياسي العربي القائم على تصورات منطقية للدخول للمستقبل، لأن مفهوم الوطن العربي الكبير لا يزال هو المفهوم المتاح حقاً للحفاظ على المصالح المشتركة للدول العربية، والتي أنتجت منارات كبرى في الخليج العربي حققت على صعيد التعليم طفرات كبرى ساهمت في استقرار اقتصادي واضح يتجاوز المصادر الطبيعية للثروة إلى الإنتاج الاقتصادي الذي يشكل حماية وحضور إقليمي واضح.
وهى طفرات ثقافية وتعليمية واقتصادية يمكن أن تساهم حقاً عبر الوعي بمفهوم الوحدة العربية التاريخي وإعادة إنتاجه بحضور فاعل للعالم العربي، في عالم معاصر متغير.
جدير بالذكر أن المفاهيم الإقليمية والحرص على الجوار الإقليمي الداعم ضرورة كبرى.
وأن الصياغات الإقليمية المستحدثة وفقاً للأمر الواقع في المنطقة العربية يجب فهمها جيداً للدخول فيها وبها دون إعادة صياغة خريطة الوطن العربي الكبير.
أما الملاحظة الأوضح والأهم في تقديري لهذا التقرير الهام، ولذلك التجمع الثقافي الوطني المخلص فهي استعادة الصوت العروبي، وهو الصوت الذي يجب أن يستعيد خطاباته الفكرية والجمالية للجمهور العام عبر الفنون التعبيرية والعمل الإعلامي الجاد.