

د. حسام عطا
عن النقود والشفرات التجريبية في المسرح
في إطار دعوتي للمشاركة برؤية نقدية للتجريب في مصر في إطار المحاور الفكرية لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الثلاثين، شاركت في صباح الرابع من سبتمبر الجاري 2023 في حوار مسرحي نقدي بحضور أصدقاء عمر مهني، وفي بهجتهم وخصوصية اهتماماتهم المسرحية دار النقاش حول التجريب المسرحي في مصر: مشكلات وحلول.
ومن أفكار طافت بعقلي ومشاعر تملكتني مع طول أمد مشاركتي النقدية في فعاليات المهرجان التجريبي منذ ولادته وطوال الثلاثين سنة التي هي عمره المدير، وما زالت معظم الأسئلة تتكرر حوله كل عام.
أما أبرز ما رأيت ضرورة طرحه مجددًا فهو تلك العلاقة المشتبكة المعقدة، والتي يتم طرحها مجددًا كلما حضر المهرجان التجريبي، ألا وهي علاقة ما بعد الحداثة والعولمة بالثقافة الوطنية إذ تخلط الكثير من الدوائر الثقافية بينهما، أي بين ما بعد الحداثة والعولمة، وتنظر لهما نظرة ارتياب وشك.
وهذا الخلط هو خلط قوي نجح في التأثير على تأخير عملية التفاعل الثقافي المصرية مع المستجدات العالمية، على ما في هذا التأخير من فوائد كبرى وخسائر أيضًا.
ولكن علينا أن ندرك الواقع العالمي المحيط، لأن هذا الواقع قد أصبح حقًا هو ذلك التاريخ الحي، المتمثل في الرأسمالية الجديدة.
وهي التي وإن رفضتها تمامًا، فهي قادمة إليك عنوة.
كما أن عزل الذات في عالم متصل متداخل، لهو عزل يؤدي لعزلة الموت لا محالة.
ومن ثم فإن العولمة تنتج من الانسياب المعقد للمعلومات والصور والمواد والبشر... إلخ حول العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، وفي الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وهو القرن الذي أوشك على أن يكتمل الربع الأول منه، اكتمالًا يؤكد تلك الانسيابية في علاقة الإنسان المعاصر بكل ما هو متاح كواقع حي حوله في كل أرجاء الدنيا الأربعة.
إنها إذن خبرة إنسانية معاصرة تؤدي إلى قوة متزامنة في الخبرات والاتصالات ما فوق القومية. وأكبر مثال على ذلك الفنون والنقود معًا.
وتداول الفنون والعملات المتعددة حول العالم، مع بروز تفوق لعملات نقدية بعينها، وتفوق مواز لإنتاج عالمي الطابع لفنون مرتبطة بتلك العملات المتفوقة.
فالأمر يجعلنا نتأمل إذن ذلك التأثير الثقافي القوي للشبكة العالمية، وقدرتها على صناعة واقع معاصر هو واقع ما بعد حديث بالتأكيد، ما أدى إلى تغير في معان الدلالات الواقعية والفنية لتخرج معظمها من محليتها، وليتم انتخاب دلالات عديدة أصبحت هي الشفرات الجديدة القادرة على الانفصال عن سياقها الأصلي: وهذا ما استطاع أن يؤكد قوة الدلالات على صنع معان جديدة منها.
كما يمكن ملاحظة أن تلك الدلالات نظرًا لحريتها وعالميتها قد أصبحت أنظمة ديموقراطية للغاية في أنظمة العلامات.
ما جعل أنظمة العلامات الوطنية والمحلية والخاصة تتأثر بذلك النظام العالمي الجديد في أنظمة العلامات، مما جعل لغة النقود والفنون ومنها المسرح التجريبي لغة عالمية، قادرة على التداول المفهوم القوي حول العالم.
ولعل العلاقة بين النقود وجودة العروض لهي علاقة وثيقة وهي تتجلى في ما أعلنه د. سامح مهران رئيس مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الثلاثين مؤكدًا أن الفرق التجريبية الكبرى تطلب مبالغ نقدية كبيرة كي تسافر لتعرض هنا في القاهرة، وأن معظم الفرق الأجنبية التي حضرت هذا العام هي فرق هواة أو فرق جديدة في عالم الاحتراف، وهو ما ينسحب أيضًا على المشاركة العربية في المهرجان.
ما يؤكد تلك العلاقة بين رأس المال الجديد والعلامات الفنية العالمية الجديدة حتى في مجال التجريب.
ولأن المشروع التجريبي المصري المعاصر، والذي بدأ مع المهرجان التجريبي في دورته الأولى 1988 هو مشروع مسرحي بدأ من وزارة الثقافة المصرية في صيغته الجديدة ذات الطابع العالمي، فقد بقي كما بقي المهرجان ذاته مشروعًا للمؤسسة الرسمية الثقافية.
ولذلك فهو مشروع تجريبي لا يزال بعيدًا عن يد المجتمع المدني ورأس المال المصري في معظمه حتى الآن، وسوف يزدهر هذا المشروع التجريبي مع العلامات والمدن الحضارية الجديدة التي تعلن عن وجودها في مصر الآن، سوف يزدهر عبر التفاعل الحر المثقف بين النقود والعلامات المسرحية في عالم معاصر.
إذ تظل المؤسسة الثقافية الرسمية متحفظة في دوائر إنتاجها التقليدية تجاه التجريب المسرحي. وذلك لأنه يوجد فارق كبير بين تجارب الهواة، وبين التجريب المسرحي المحترف المستند لخبرة جمالية ومعرفية كبيرة ولرأسمال كبير قادر على الفعل.
وفي هذا المشروع التجريبي إذ يمكننا أن نثمن التجارب المتعددة والعروض المنفردة التجريبية لأجيال عديدة.
إلا أن فرقة الورشة المسرحية المصرية المستقلة، والتي أسست في مصرفي حقبة الثمانينيات اتجاهًا جديدًا في ريادتها مجال المسرح المستقل تبقى هي الفرقة الأبرز انتظامًا إلا أنها ما زالت تعاني من انقطاع اتصالها بالجمهور العام، وقدرتها على أن تعيش من إيراد شباك التذاكر.
ولكن يبقى المشروع التجريبي المصري المعاصر، ومهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي نافذة مفتوحة على الوطن العربي والعالم، قادرًا على التواصل دافعًا إلى تغيير العديد من المفاهيم المسرحية القديمة البالية، منتظرًا لرأس المال الوطني ليدعم في عالم المسرح فنونًا جميلة معاصرة قادرة على إنتاج علامات مسرحية جديدة وجميلة وقادرة على التواصل مع الجمهور العام.
تلك هي مشكلة المشكلات في المشروع المسرحي المصري التجريبي المعاصر، وأبرز الحلول، وهو الحل القادم الذي ننتظره ألا وهو الإنتاج المسرحي المصري المستقل القادر على الجمع بين الابتكار والمعرفة والتواصل مع الجمهور العام.