

د. حسام عطا
مسرح صلاح عبد الصبور وشهوة إصلاح العالم
إنه صلاح عبد الصبور إذن يحضر كل عام في عيون ووعي وضمير مصر التي أحبها وأحبته، ولا تزال تحبه وستبقى محبتها له لأجيال قادمة، شأنها شأن مشروعه الشعري والمسرحي الخالد في الثقافة المصرية والعربية ممثلًا لحضور مصر في الثقافة الإنسانية.
إنه أغسطس الحار يذكرنا برحيله وذكراه العطرة.
ففي الرابع من أغسطس يرحل في القاهرة 1981 الشاعر الطيب مفرط الحساسية بعد رحلة حياة حقيقية ومنتجة ومبدعة.
إنه محمد صلاح الدين عبد الصبور الحواتكي المولود في 3 مايو 1931 بمدينة الزقازيق، ليجمع بين أصل الجد الصعيدي والميلاد لدى أهل الكرم والشهامة أبناء عمومة أهل الصعيد في الشرقية الباهرة بالنيل والصحراء والأفق والخيال.
إنه ذلك الشاب الأسمر رفيق صبا عبد الحليم حافظ ومرسي جميل عزيز وكمال الطويل الذي جاء للقاهرة ليتعلم في جامعة فؤاد الأول ليجد جيلًا من العمالقة ينقل العلم والمعرفة ويفتح آفاق الفهم العميق.
ضمه العلامة أمين الخولي لجماعة الأمناء، وتفجر بعدها إبداعًا وعملًا مهنيًا في الصحافة والمؤسسات الثقافية الكبرى.
وهو موطننا الذي نفخر بأننا سرنا هنا في طريقه الذي سلكه وترك فيه ثروة معرفية في مؤسسة روزاليوسف، التي منحها إنجازه الصحفي الأبرز في مقالات منتظمة، وأيضًا كان نائبًا لرئيس تحريرها في مرحلة مهمة من مراحل تألقها المهني والوطني.
بدأ صلاح عبد الصبور مسيرته الإبداعية ليصبح رائدًا مجددًا صانعًا لنقلة معرفية وإبداعية خاصة جدًا في عالم الشعر في مصر والوطن العربي.
فارسا نبيلًا في عالم الشعر الحر، كما تشهد الأشعار في ديوانه المكتمل، الناس في بلادي والحق أقول لكم، وأحلام الفارس القديم، وتأملات في زمن جريح، وشجر الليل، والإبحار في الذاكرة.
ويبقى الشعر رائعًا لكن القصيدة مهما كانت قدرتها على استحضار المخيلة والغناء من وجهة نظر الشاعر، ووجهات نظر الجموع، إلا أن عالم الدراما يبقى عالما موضوعيًا ملهمًا قادرًا على محاكاة الواقع وصنع حياة أخرى أكثر إلهامًا وتنظيمًا وبوحا وصدقا.
ولذلك والشاعر العظيم صلاح عبد الصبور والذي تملكته شهوة إصلاح العالم وهذا التعبير هو تعبيره ووجهة نظره في عمل المثقف والمبدع قد ذهب للمسرح الشعري في عالم المحاكاة الرحب.
وفيه ناقش وطرح وكتب بكل حرية وصدق وبسالة الشأن العام، واهتمامات الناس في بلادنا وأحلام وآلام المثقفين والعامة، الخاصة منهم والجموع، وقد كان الفقراء والشعراء منهم في قلبه الأخضر وضميره الحي الوطني.
لأن الشعراء والبسطاء والفقراء هم أصحاب الأحلام بالمستقبل الأفضل المتطلعين عبر التمني والخيال لتحسين الحياة.
ولأن الشعراء هم في القلب من مشروعه المسرحي الجاد جدًا، والذي هو أهم مشروع مسرحي في المسرح الشعري بعد مشروع أمير الشعراء أحمد شوقي، فهم يحملون الأحلام الكبرى ويعبرون عن أحلام الجموع في مسرحه الشعري.
ويقوم هذا المشروع في كل من مسرحية مأساة الحلاج ومسافر ليل، والأميرة تنتظر، وليلى والمجنون، وبعد أن يموت الملك، على فكرة حاكمة هي العلاقة بين الفكرة والقدرة، بين الحلم والإنجاز، بين الخيال والواقع كما يبنيه الشاعر عبر الخيال بانيًا فيه المستحيل، بينما يبقى الواقع نفسه قيد الإمكانية والقدرات والظروف الموضوعية الحاكمة لدى السياسي والاقتصادي وغيرهم من صناع الواقع.
يبقى الواقع تحديًا صعبًا يتم تحسينه بجهد جهيد وتحديات كبرى.
بينما يستطيع الشاعر صلاح عبد الصبور أن يكتب الأحلام الملونة ويصيغ المستحيل متاحًا في أعماله المسرحية ويطرح الأسئلة على السلطة والمجتمع والحبيبة والوطن والوجود.
ولذلك بقيت علاقة المثقف بالمواطن العام وبالدولة علاقة حاكمة وفكرة أساسية متكررة في أعمال الشاعر صلاح عبد الصبور المسرحية.
ففي مأساة الحلاج تأتي واضحة عندما يشهد العامة زورا على المثقف بعد أن مُنِح كل منهم دينارًا، بينما كان هو يترك خلوته ويزهد في ضيعته ليذهب ليحدثهم في أمور الدنيا والدين.
محاكمة الحلاج ليس لأن الحلاج خرج عن الملة بحال مبالغ فيه من أحوال الصوفية.. ولكن لأنه حدث العوام في شأن الخواص والحكام.
وفي الأميرة تنتظر، تبقى الأميرة/ الحبيبة/ الوطن تنتظر الفارس المخلص بينما تغيب الجموع، تنتظره قادرًا مفعمًا بالأمل يحمل الحكمة والقوة معا.
وأيضًا في ليلى والمجنون يظل سعيد بطل المسرحية منتظرًا للقادم من بعده من يتمنطق بالكلمة ويغني بالسيف، وفي مسافر ليل يظل المواطن مسلوب الإرادة راكبًا قطار الحياة ينتظر من يصل به إلى محطة يهبط فيها من قطار يسير ولا يتوقف.
وفي بعد أن يموت الملك يسأل صلاح عبد الصبور سؤال المستقبل، وهو حلم الشاعر بالعدل القادم القادر على الجمع بين الفكرة والفعل.
لم يكن مسرح صلاح عبد الصبور مجرد خطاب سياسي يشتبك مع الواقع آنذاك ويطرح عليه الأسئلة، وإلا كان قد اندثر برحيل المرحلة الاجتماعية التي عبر عنها وقدم فيها مسرحه. كان مسرح صلاح عبد الصبور يحمل تأملات فلسفية يضعها على لسان الشخصيات، ويعبر عن موقف وجودي من الحياة، ويتأمل البشر ويعبر عنهم بفهم جديد مختلف، عن الناس في بلادي.
أما عن علاقته بالمسرح كفن إبداعي مركب، فهو في مسرحه يعبر عن فهم عميق لتاريخ ونظرية الدراما، ويعبر عن مقدرة مثقفة متصلة بالجمهور العام قادرة على أن تكون طبيعية وتجريبية ومحبوبة من الجمهور العام.
ولذلك كان مسرحه صالحًا للنجاح الجماهيري حاملًا للقيم الجمالية، قادرًا على البقاء الآن وهنا، وعلى الدخول للمستقبل، لأنه إنجاز كبير في الثقافة المصرية والعربية والتراث الإنساني.