

د. حسام عطا
منهج يوسف وهبي في التمثيل المسرحي (2)
في منهج يوسف وهبي في التمثيل المسرحي كنت قد كتبت المقال الأول في الأسبوع الماضي من أغسطس النقدي الحار، وبينما نتمنى في انخفاض درجات الحرارة التي نعيشها، استكمل متعة التأمل في منهج يوسف بك وهبي في التمثيل المسرحي.
وذلك استكمالًا للمقارنة التي سبق نشرها بين مسرحيتي بيومي أفندي وراسبوتين رصدًا لفكرة الاسترخاء الذهني والحرية العضلية لديه، وفيما يلي أتابع ملاحظاتي الجديدة عن فنه في التمثيل المسرحي.
أولًا: الوجه وتعبيراته:
يوسف وهبي صاحب الوجه الواضح المعالم حالة مميزة في فن التمثيل، فهو يملك وجهًا مستطيلًا وبوجنتين ممتلئتين، وبعينين واسعتين، ووجهه يحمل أيضًا تلك الألفة التي يجب أن تكون حاضرة في وجوه الممثلين، وهي مصدر جاذبية واضحة.
ويوسف وهبي عندما ينظر بهدوء، فهو ينظر نظرة عادية تبدو طبيعية، إلا أن استخدامه لعينيه عندما يحملق في لحظات الاندهاش أو الغضب يأتي كطريقة خاصة، وهو يملك مقدرة على التعبير بالعين، والتي هي مرآة الروح، لأن يعبر عن عالم الشر المستطير في راسبوتين كي يمكن للعين وتشكيل الحاجبين ومرونة عضلات الوجه وسيطرته عليها أن تعبر عن العالم الداخلي للشخصية.
كما يستطيع هذا الوجه أن يعبر عن الحياة المهنية كما في شخصية الساعاتي في بيومي أفندي ويملك التعبير عن الحالة الاجتماعية والمشاعر الخاصة لأب متفانٍ في سن متقدمة، وهو غير ذلك الوجه المسيطر القوي المتغير صاحب السطوة الذي يظهر به في شخصية راسبوتين.
وإذا كان الوجه في التمثيل للسينما هو الأداة الأولى، فهو في المسرح ضرورة، إلا أن قدرة يوسف وهبي على التحكم في عضلات الوجه وتشكيله لهي قدرة خاصة يعتمد عليها في تمثيله المسرحي بشكل أساسي، ويملك تلك المقدرة على التعبير به إلى درجة مذهلة بالنسبة إلى عالم التمثيل المسرحي، الذي يكون التعبير فيه بالجسد والحركة والصوت هو الأداة الرئيسية.
أما في حالة يوسف وهبي، وبطبيعة تكوين وجهه وقدرته على السيطرة عليه فهو يقدر في حالة سكون الحركة وثبات الجسد على استخدامه كوجه معبر يستطيع المتلقي التواصل مع تعبيراته الواضحة جدًا، وهو تعبير لا يمكن إدراجه في باب المبالغة في الحالة المسرحية بالتأكيد.
إنه ذلك الوجه العارض المتحول المتغير الخارج عن ذاته القادر على ارتداء معالم الشخصية الدرامية.
ثانيًا: الذاكرة الانفعالية والجسد العارض:
يبدو يوسف وهبي ممثلًا مدهشًا لأنه يملك تلك المساحة المتوازنة الخاصة به، والتي يندر أن يمتلكها الممثل المقتدر صاحب الطابع الخاص إذ يبقى قادرًا على الحفاظ على تلك المسافة بين الاندماج والتماهي مع الشخصية الدرامية بالعودة للذاكرة الانفعالية الخاصة به، وهي ذاكرة تحتوي كما تمت الإشارة إلى ذلك من قبل على تجربة حياتية مثيرة ومتنوعة ومتقلبة وحادة وتمتد من قاع المجتمع إلى قمته، ومن الريف والسيرك والتجوال كمصارع سيرك شعبي كما هو معروف عنه، إلى عالم إيطاليا الغربي المثير، إلى تجارب حياتية متقلبة، ولعل ذلك يظهر جليًا في مقدرته على استخدام تلك التجارب الحياتية العميقة والمتنوعة كذاكرة انفعالية يعود إليها مستلهما العاطفة القوية والتي تظهر في طريقته التمثيلية الخاصة، ولكنه يملك مساحة بينه وبين تلك الذاكرة الانفعالية الثرية تجعل جسده ووجهه وصوته بمثابة عارض حتى يمكن أن يعبر بمشاعر وإيماءات ولغة جسد واضحة بدرجة لا تفسد التقمص الإيهامي للشخصية بل تحققه، وتمكنه كممثل من استخدام شديد الوضوح للدلالات المسرحية في دقة تقف قبل المبالغة بقليل وتقدر على رسم ملامح عامة واضحة للشخصية الدرامية. وتصنع حالة من الترقب والتوقع والانجذاب الممتع لدى المتلقي.
ثالثًا: الطاقة الحيوية: الحضور:
يمتلك يوسف وهبي تلك الطاقة الحيوية اللازمة للمثل، ألا وهي الحضور.
فهو ممتلئ بها إلى حد كبير وهي طاقة طبيعية لا يمكن اكتسابها عبر التدريبات، إنها حالة الجاذبية الخاصة التي لا يمكن تفسيرها، إلا بوصفها كحضور قوي للشخصية يجعلها قادرة عبر الطاقة الداخلية على أن تكون مريحة وجاذبة للعين وقادرة على تحقيق التواصل الشعوري مع الجمهور.
فهو بلا شك يمتلك تلك الطاقة ويستطيع أن يدمجها في الشخصية الدرامية، فهي ذات سطوة وحضور مركزي طاع يخفت من حضور كل من حولها في مسرحية راسبوتين، وتلك الطاقة الحيوية تأتي بذات الجاذبية في الشخص الطيب المتواضع رب الأسرة العطوف بطاقة حضور دافئة جاذبة قادرة على خلق التعاطف الإنساني مع شخصية بيومي أفندي، ويمتلك يوسف وهبي استخدام تلك الطاقة الحيوية لمنح شخصياته الدرامية ما يتناسب معها، إنها ذلك السر الغامض طاقة الحضور الحيوية والتي يقدر على تشكيلها وتوجيهها في الاتجاه الدرامي الصحيح، وهو ما يجعل يوسف وهبي على إعتنائه بالتقنية الخارجية وملامح الشخصية الدرامية من حيث الشكل الخارجي يستطيع خلق تلك الموائمة مع الطاقة الحيوية المتعارف على تسميتها بالحضور، فيبدو مؤثرًا حتى في لحظات الصمت.
رابعًا: الصوت والنمط وكسر النمطية:
يوسف وهبي هو صاحب البصمة الصوتية المميزة التي لا تخطؤها الأذن.
وهو يملك مساحات صوتية متعددة يستطيع استخدامها بمقدرة واضحة تعبر عن الشخصية الدرامية، وهو صوت قوي يعرف صاحبه متى يجعله قويًا غليظًا أو دافئًا ناعمًا محببًا، أو فظًا مخيفًا، ولعل مقدرة يوسف وهبي في استخدامه لصوته هي ما جعلته مع مقدرته على امتلاك التحكم في تشكيل وجهه يقترب قليلًا من نمط مميز، إلا أن تنوع الأدوار وقدرته على الابتعاد عن تكرار التعبيرات الصوتية منحته طابعًا مميزًا في الأداء، ربما يكون قريبًا من صورة نمطية خاصة به وعلامة مميزة على طريقته الخاصة جدًا، والتي لا يشبه فيها إلا نفسه.
لكنه يستطيع عبر قدراته الإبداعية كسر ذلك النمط، وصنع مجموعة من التفاصيل الخاصة في كل شخصية درامية ليمنحها إيقاعها العام وجوهرها واختلافها، مما يطبع منهجه التمثيلي الخاص بطابعه الشخصي الذي هو أصالة نادرة يعبر هو عنها وتنتسب هي لشخصه الإبداعي المولع بالخروج من شخصيته الحقيقية إلى شخصية أخرى، لكنها أصالة فريدة لا تدخل به إلى عالم النمط التمثيلي. فهو يقدر على كسر ذلك النمط مع الاحتفاظ بطريقته المميزة الخاصة به هو وحده.
ويمكننا في ضوء تلك الملاحظات القول بأن منهجه التمثيلي المتفرد قد طغت عليه الأدوار النمطية المتكررة في عمله بالسينما المصرية، خاصة في الفترة المتأخرة من عمله بها وصنعت صورة ذهنية خاطئة عنه كممثل كبير، إلا أن منهجه كممثل مسرحي يبقى منهجًا مختلفًا مميزًا يحمل الجمع بين الموهبة الأصلية والوعي العلمي والتدريب الشاق، وهو يعد في عمله المسرحي متفردًا صاحب بصمة خاصة تجعله معاصرًا ومجددًا ومتصلًا بمنجزات التمثيل الحديثة آنذاك بل وبما هو معاصر منها حتى الآن.