عاجل
الأحد 23 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
اعلان we
البنك الاهلي
عن الاستقطاب المفتعل بين الفن والدين .. قراءة جمالية

عن الاستقطاب المفتعل بين الفن والدين .. قراءة جمالية

واحدة من أبرز صراعات الاستقطاب في مصر الحديثة والعالم العربي، والتي امتدت إلى عالمنا المعاصر، هي ذلك الخطاب المتنافر بين الفن والدين. 



وهو استقطاب يتأسس على هجوم منظم من المتشددين الدينين، وكثيرًا ما يتم استخدامه مدمجًا مع ملامح استقطاب أخرى. 

 

وهو الملاحظة الواضحة التي برزت بوضوح خلال الأيام الماضية، إذ دخل عدد من المتحدثين باسم الدين، وهم بكل وضوح ينتمون إلى تيارات متشددة إلى عالم النقد الفني. 

 

وعندما أعود بالذاكرة إلى محاولات مرحلة الثمانينيات من القرن العشرين، لمناقشة ما أطلق عليه آنذاك النقد الإسلامي. 

 

كمحاولة وسطية متفهمة وعلمية للمقاربة بين علوم النقد الأدبي والفني وجوهر مقاصد الشريعة الإسلامية. 

 

أجد أن هذا التيار كان يبدأ محاولة جادة إلا أنه قد اختفى تدريجيًا رغم إمكانية قبوله كواحد من متقربات النقد الفكري المستند إلى أفكار بعينها شأنه شأن النقد الأيديولوجي المتأسس على رؤية اجتماعية مادية جدلية للواقع الاجتماعي وبالتالي للآداب والفنون. 

 

وجدير بالذكر أن علم التفسير أو التأويل الأدبي والفني المعاصر هو تطوير ديني لعلم تأويل وتفسير اللاهوت المسيحي، فقد خرج عبر طرق تفكيره وقراءته للنصوص المسيحية المقدسة إلى عالم قراءة وفهم وتأويل النصوص الأدبية والإنجازات الإبداعية المتعددة. 

 

أتذكر هذا التفكير الطبيعي وتأثر الفن بالدين، وتأثير الأديان على عمل الفن متطلعًا إلى عودة التفاعل الثقافي بين الأمرين. 

 

ولا يمكن رفع هذا الاستقطاب الحاد إلا برؤى صحيحة لمفهوم الجمال. 

ذلك أن الفن بشكل عام لا يعيش عالمًا منفصلًا، فهو محكوم بمدى قدرة الفنان المبدع على التواصل مع إطار حاكم هو الإطار المرجعي للجمهور العام، ويأتي الدين ومفهوم الطبقة الاجتماعية والخبرات الجمالية السابقة وغيرها من مكونات الوعي العام إطارًا حاكمًا لإحداث هذه القدرة على التواصل بين العمل الإبداعي ومتلقيه. 

 

بل إن ذلك الفهم يمتد بنا أيضًا نحو أخلاقيات العلوم الطبيعية والعلوم الأخرى المتصلة مباشرة بالطبيعة والإنسان. 

 

لنجد أيضًا محاولات ومقتربات دينية متفهمة أو متطرفة للحديث عن العلوم المعاصرة وإنجازاتها، ومحاولة فهمها وتمريرها عبر الرؤية الدينية لكل شيء. 

 

وهو أمر مقبول وممكن ومفهوم ومنطقي أن يقارب رجال الدين كافة مناحي الحياة في ضوء فهمهم للدين وفي ضوء دورهم الطبيعي المقدر لملاحظة كافة المستجدات. 

 

بينما يبقى العامل المشترك الذي يجب الانتباه له في تلك المقاربات عاملًا منطقيًا حاكمًا للوجود كله، ألا وهو علم الجمال.

 

وهو العلم الذي يجب أن يكون المشترك الأساسي لفهم الفن والعلم من وجهة نظر دينية موضوعية، وهو الأمر الذي يحتم على العلماء والفنانين والأدباء والمفكرين الاحتكام طوال الوقت لعلم الجمال والالتزام به سواء من ناحية الأثر الجمالي الفني أو من ناحية أخلاقيات العلوم. 

 

ذلك أن جماليات العلوم والفنون هي المشترك الذي يسعى لدراسة الجمال ومبادئ البساطة والأناقة، وهو علم يحرص على فحص القيم الجمالية في كل من المصادر الطبيعية والاصطناعية.  وهو ما يفسر قدرة العلم على تحسين جودة الحياة، وقدرة الفن على التأثير في الأفكار والمعتقدات وصنع حالة المتعة والسعادة. 

 

وبالتالي وبالعودة إلى النظرة الحداثية لتلك المسألة يمكن العودة إلى فهم الفلسفة اليونانية القديمة وإلى تأمل الفنون التشكيلية الإسلامية بعالمها الزخرفي الرياضي المحب للتجريد وللتماثل المتسق، ولفهم الموسيقى كمكون أساسي للكنيسة المسيحية المصرية القديمة وغيرها من الكنائس المتعددة، وتأمل تلك الآثار الروحية التي يتركها الجمال كدليل واضح على وجود الله الواحد الفرد الصمد الذي لا يتغير لكنه خلق هذا العام المتغير في كل مظاهره، إلا أن صفة الخالق تتجلى في كل هذا النظام والاتساق والانسجام الذي يظهر في مخلوقاته، والتي تتصف جميعها بأنها ذات طابع جميل وكل ما يخالف هذا الجمال هو استثناء من الفوضى والقبح وعدم الاتساق الذي يجب أن يسعى الإنسان لإصلاحه وهو يسعى لإعمار الحياة. 

 

ولذلك فالعلوم والفنون هي طريق واضح ممهد لمعرفة الله الخالق العظيم صانع كل هذا الجمال.  ومن هذا الفهم شديد التبسيط لجماليات العلوم والفنون يمكننا التواصل مع كل الرؤى الدينية المتفهمة المحبة. 

 

ولذلك فلا شك أن الفن والعلم هما رسالتان مهمتان للتقرب إلى الله شرط أن يكون الفن إبداعًا والعلم جادًا، ولتحقيق ذلك فإن علم جمال الفنون والعلوم ضرورة للمبدع والعالم والكاتب والمفكر إذا أراد ذلك. 

 

وفي ضجة متواصلة للاتجار بالفنون وبالأعضاء البشرية ولفساد الأذواق المخالفة للفطرة الإنسانية تتكاثر تلك الإنتاجات التي تسمى نفسها فنًا وإبداعًا، وتكرر نفسها في إصرار مذهل، مصحوبًا بالاستخدام الخاطئ للعلوم بفصلها عن حقيقتها الدالة على الإيمان، أو تطبيقاتها التكنولوجية والصناعية الباحثة عن الأرباح الكبرى. 

 

يبقى لنا مشترك أساسي يمكن أن يستعيدنا إلى وحدة معرفية مشتركة للفنون والأديان والعلم معًا، ألا وهو علم الجمال الدال على وجود الله والفطرة الإنسانية السليمة، وهي ضرورة لرفع ذلك الاستقطاب الحاد واستعادة للتفاعل الثقافي بين الفن والدين، وبين العلم والدين وبين ثلاثتهم لصالح الدخول للمستقبل الصحيح والقائم على وجودهم معًا في وحدة فاعلة، وهو أمر يحتاج إلى جهد كبير أوله رفع ذلك الاستقطاب الحاد. 

 

فالفن يستهدف ذات المقاصد التي يستهدفها الدين ألا وهي الحق والخير والجمال، ولا أحتاج للتأكيد على أن تلك المقاصد هي مقاصد العلوم بالتأكيد. 

 

ولا شك أن إدماج الفن والعلم في الاستقطاب السياسي باسم الدين أمرًا خطيرًا على مستقبل مصر والوطن العربي، إلا أن العلماء والفنانين يجب أن يراجعوا إنتاجاتهم مراجعة صارمة وجذرية لإمكانية إحداث ذلك التكامل الهام والضروري لسلامة وتطور المجتمعات وهو ذلك الفهم الجميل للتفاعل الطبيعي بين العلوم والفنون والدين. 

 

ولا عزاء لنا إلا في إدراك تلك الهوة السحيقة التي يأخذنا إليها ذلك الاستقطاب، والعمل على حل مشكلاتها المتعددة. 

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز