صفوت عمارة: الاجتهاد في العشر الأواخر من هدي النبي ﷺ
محمود هيكل
قال الدكتور صفوت محمد عمارة، من علماء الأزهر الشريف، إنّ اللَّه عزّ وجلّ ميَّـز الثلث الأخير من رمضان، بميزات جعلته أفضل ما في شهر رمضان، لوجود ليلة القدر فيه، التي هي خيرٌ من ألف شهرٍ، وقد بيّن العلماء أنَّ ليالي العشر الأواخر من رمضان الواقعة بين ليلة 21 إلى آخره، هي أفضل الليالي، وأيام العشر من ذي الحجة أفضل الأيام؛ ففرق العلماء في الأفضلية وقالوا إن ليل رمضان أفضل من ليل ذي الحجة بسبب القرآن والقيام، ونهار ذي الحجة أفضل من نهار رمضان بسبب مناسك الحج، ومع أن اللَّه يضاعف الأجر والحسنات في شهر رمضان، إلا أنه يضاعفه أضعافًا كثيرةً في الثلث الأخير من رمضان لأنها أيام وليالٍ مباركة اختصها اللَّه بخصائص دون غيرها.
وتابع الدكتور صفوت عمارة، أن جمهور العلماء اتفق على أنّ ليلة القدر تقع في العشر الأواخر من شهر رمضان لكثرة الأحاديث التي وردت في التماسها في العشر الأواخر من رمضان، وأما تحديدها في العشر الأواخر فمختلف فيه تبعًا لاختلاف الروايات الصحيحة، والأرجح أنها في الليالي الوتر من العشر الأواخر، وأرجى ليلة لها هي ليلة السابع والعشرين، لما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي اللَّه عنهما، أنّ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر» [رواه البخاري ومسلم]، وفي رواية: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر» [رواه البخاري]، أي: ابذلوا جهدكم وحرصكم في طلب ليلة القدر وهي في الوتر، أي: في الليالي الوترية وهي: الحادية والعشرون، والثالثة والعشرون، والخامسة والعشرون، والسابعة والعشرون، والتاسعة والعشرون من العشر الأواخر من رمضان.
وأضاف الدكتور صفوت عمارة، أنّ من فضائل العشر الأواخر من رمضان أن فيها ليلة القدر التي اصطفاها اللَّه تعالى من بين الليالي ليُنزّل فيها القرآن الكريم، وهي ليلة تُفصَّل فيها الأقدار، وتتنزّل من اللوح المحفوظ إلى صحف الكتبة من الملائكة، وهذه الأقدار تتضمن أقدار العباد من أمور الدنيا، كالرزق والأجل وغير ذلك وقد وُصفت بذلك في القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3-4]، وقد أنزل الله تعالى في شأنها سورة تتلى إلى يوم القيامة، وذكر فيها شرف هذه الليلة وعظَّم قدرها وهي سورة القدر، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر 1-5]؛ فالعبادة والعمل فيها أفضل من ألف شهرٍ فيما سواها؛ أي ما يقدر بثلاثٍ وثمانين سنة وأربعة أشهر.
وأشار الدكتور صفوت عمارة، إلى أنّ النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم خص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لم يكن يفعلها في غيرها، ومن هذه الأعمال كثرة الاجتهاد في العبادة، ويستعدُّ لإحياء الليالي العشر زيادةً عن المعتاد، ويخصها عن بقية الشهر بمزيدٍ من الطاعة والعبادة؛ فقد وصفت السيدة عائشة رضي اللَّه عنها، حال النبي في العشر الأواخر قائلةً: «كان رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يجتهد في العشر الأواخر، ما لا يجتهد في غيره» [رواه مسلم]، وكان يحيي الليل كله بأنواع العبادات، من صلاة وذكر وقراءة قرآن؛ ففي الصحيحين عن عائشة رضي اللَّه عنها، أنها قالت: «كان النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله» [رواه البخاري]، وزاد [مسلم]: «وجدّ وشدّ المئزر»، وفي هذا الحديث تبين لنا السيدة عائشة رضي اللَّه عنها، حال النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في هذه العشر من اجتهاده في العبادة زيادة على المعتاد، وحث أهله على أداء النوافل والعبادات، وتحصيل خير تلك الأيام، وأنّ يجعل كل الاهتمام في العشر الأواخر لعبادة اللَّه عزَّ وجلَّ، ولا يشغله شيء عنها من أمور الحياة، والمئزر هو الإزار المعروف من الثياب، وشده كناية عن الاستعداد للعبادة، وإشارة للجد والاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان، وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء، وترك الجماع.
وأوضح الدكتور صفوت عمارة، أنّ النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم، كان يوقظ أهله في هذه الليالي للصلاة والذكر، حرصًا على اغتنامها بما هي جديرة به من العبادة، وبين فضل ليلة القدر وقيامها؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه» [رواه البخاري ومسلم]؛ فمن أحيا هذه اللَّيلة المباركة تصديقًا باللَّه وبفضل هذه اللَّيلة، وفضل العمل فيها، وبما أعد فيها من الثواب خائفًا من عقاب تركه، مُحتسبًا جزيل الأجر غفر اللَّه له ذنوبه السابقة، كما يُستحب للمسلم تحري ليلة القدر، والإكثار من الدعاء بما أرشدنا به النبي ﷺ بأفضل أنواع الدعاء في تلك اللّيلة، وهو: «اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعف عنى»؛ فعن السيدة عائشة رضي الله عنها: «قلت: يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر، بم أدعو؟ قال: "قولى: «اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعف عنى» [رواة ابن ماجة وصححه الألباني]، وهذا الدعاء من جوامع الكلم، ومن دعا به حاز خيري الدنيا والآخرة؛ «اللهم اجعلنا من أهل ليلة القدر، وأعنا على قيامها إيمانًا واحتسابًا، واجعلنا من عتقائك من النار ومن المقبولين».