عاجل
الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الطريق إلى المغرب!

الطريق إلى المغرب!

لم أتوقف كثيرًا أمام الأحداث المتلاحقة وما أصابني من شظاياها، ولم أعد حساب الأمس وما خسرت فيه، فالعمر حين تسقط أوراقه لن تعود مرة أخرى.. ومع كل ربيع جديد سوف تنبت أوراق أخرى. واذا كان الأمس ضاع، فبين يدي اليوم.. لم أنظر إلى الأوراق التي تغير لونها.. وبهتت حروفها.. وتاهت سطورها بين الألم والوحشة.. واكتشفت أن هذه السطور ليست أجمل ما كتبت.. وأن هذه الأوراق ليست آخر ما سطرت. وإذا كان اليوم سوف يجمع أوراقه ويرحل، فلدي الغد، لم أحزن على الأمس فهو لن يعود.



نعم تعثرت قدماي، وكدت أسقط في حفرة من اليأس والإحباط، لكنني خرجت منها أكثر تماسكًا وقوة. نفضَتُ عن جناحي غبارَ القلق، فسقط دون أن يحقق مآربه وغاياته، فالإرادة لا تموتُ مهما لطمَتْ عارضيها قبضة العقبات، والطائرة تعاكس الرياح في طريقها للانطلاق. 

 

لقد جمعت شتات العقل والتفكير وعزمت أن أنهي غربتي الثانية ليس لظروف العمل، بل من أجل الأبناء الذين وصلوا لمرحلة من العمر كان من الأفضل عودتهم للوطن الأم.. ورغم حيرتي بين ما أرى وما أستطيع، ولأن إرادة الله فوق إرادة الكل، وأنه المتفرد بِالاِخْتِيَارِ وَالتَّدْبِير، وعليه الاتكال والتوكل فلا داعي للقلق ونحن بين أيدي الله، ولأنني مؤمن بأن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله، اتكلت عليه، وسلّمت أموري إليه.

 

أتاني من حيث لا أدري اتصال ودعوة من عميد الصحفيين الكويتيين أحمد الجارالله لزيارته في منزله القريب من ماربل آرش بلندن على مشارف منطقة كينسينجتون جاردن، التي تطل على حدائق هايدبارك. استقبلني في بهو منزله، الرجل كان مربوع القامة، عريض المنكبين، لون بشرته يميل قليلًا إلى السمرة، سبط الشعر الأسود، ذا شارب تركي ثقيل، أنيقًا في ملبسه، رحب بي بابتسامة واثقة.

 

اللقاء كان في حضور شاب قليل الجسم أسمر البشرة من جزيرة موريشيوس يتحدث الإنجليزية قدّمه لي كمحاسب ومدير لأعماله في المملكة المتحدة واسمه فوزي. جلست معهم في مضيفة الجارالله، وبعد السلام والترحيب بالقهوة العربية البيضاء، وبشهوة الصحفي الذي يطارد الخبر ويشعر بالمصدر ويحسه، ويلتقط بأنفه رائحته، وكأني مصدر إخْباَره، وجه أسئلته بشهوة إعلامية عامرة، وبتقنية حوار، ورأسه تدورُ في فَلَك الأسئلة المترامي، بدأها كمحقق بالسؤال عن قصتي مع روبرت ماكسويل، وأخبار الحوادث بعد اغتيال صاحبها، و.. و.. ومحاولة لمعرفة المزيد من أخبار الصحف المهاجرة. أوقفت سيل الأسئلة بمهارة وبتقنية دفاعية بصد فرص توجيه أسئلة أخرى، بتوجيه سؤالي للجارالله لمعرفة سبب رغبته للقائي، لتأتي الإجابة بقذفة مرتدة مفاجئة، معلنًا نيته في إصدار "السياسة الكويتية" من المغرب، ورغبته بأن أتولى مسؤولية الإصدار والإشراف على طباعتها من الدار البيضاء. ولأنني عاشق لمهنة النشر، ومن صُنَّاعُ الفَرَحة لكل إصدار جديد، أجمل صناعة في التاريخ، صناعة النشر لكل ما هو مقروء، يحمل في طياته العلم والثقافة والفن، محبًا لمهنة "الجورنالجية" بالمفهوم التاريخي، الذين حملوا أمانة نشر العلم والحق في وقت كانت تعم فيه الأمية ويسود فيه القهر السياسي والظلم الاجتماعي، ومن بين هؤلاء أمين الرافعي، محمد حسين هيكل- عباس محمود العقاد- أحمد أمين- فكري أباظة- محمود عزمي.. إلى آخر هؤلاء الكتاب العظماء. 

 

ولأنني أعشق الورق ورائحة الحبر عطري المفضل، فرحت بالعرض؛ قبلت على الفور واتفقنا، وكلف الجارالله الموريشي فوزي المحاسب ومدير أعماله بالتنسيق معي وتوفير كل الإمكانيات لإنجاح المشروع، وبدأت الإعداد والاستعداد لعرض المشاركة والعمل الجديد لإصدار جريدة السياسة من المغرب.

 

اللقاء كان بعد أكثر من سنة بعد تعرض أحمد الجارالله إلى محاولة اغتيال، أثارت ضجة في 23 إبريل 1985، حيث قام مسلح بإطلاق النار عليه وأصيب بـ6 رصاصات لكنه تعافى بعد أن تم نقله إلى المستشفى.

 

والجارالله 81 عامًا يمتلك العديد من الآراء السياسية الصائبة، ويعتبر من الشخصيات التي استطاعت أن تسير في طريق الصحافة ببراعة ومهنية، استطاع من خلالها التدرج الوظيفي في المناصب الصحفية. كانت بداياته في مجال الصحافة في عام 1963، كان شابًا بدأ صحفيًا بسيطًا بإحدى الجرائد الكويتية في "جريدة الرأي"، واجتهد حتى تمكن من الوصول إلى أفضل المناصب حتى إنه بعد أعوام قصيرة جدا وصل إلى منصب مدير التحرير ونائب رئيس التحرير.

 

في عام 1965 قرر أن ينتقل إلى العمل في الحياة السياسية لأنه وجد ميولًا تجاه المشاركة في الحياة السياسية وبالفعل التحق بالعمل في إحدى المجلات السياسية الكويتية وهي "مجلة السياسة الكويتية"، وشغل بها منصب رئيس التحرير، ومن خلال منصبه واجتهاده اشتهرت المجلة وحققت نجاحات غير مسبوقة وتحولت إلى واحدة من أشهر المجلات الكويتية.

 

استمر الجارالله في العمل والاجتهاد داخل هذه المجلة من خلال منصبه حتى إنه تمكن في عام 1968 أن يقنع مالكها أن تتحول ملكيتها له. وتحولت هذه المجلة بعد ذلك إلى صحيفة يومية بعد أن كانت أسبوعية وأصبحت تسمى "صحيفة السياسة الكويتية". وواصل توسعاته واجتهاده في هذه المجلة حتى إنه تمكن في عام 1977 من توسيع صحيفة السياسة الكويتية، فأصبحت تستخدم اللغة الإنجليزية، وأصدرت دار "السياسة الكويتية" ومجلة "الهدف" الأسبوعية. 

 

كان من أبرز أعمال الجارالله التي كانت السبب الحقيقي وراء شهرته، تلك المقابلة التي تمت بينه وبين الإمام محمد البدر حميد الدين، وكانت هذه المقابلة في عام 1963. وترجع أهمية هذه المقابلة إلى أن "البدر" قاد حركة مضادة، هدفها استرجاع كرسي الحكم من الرئيس اليمني الأسبق عبدالله السلال.

 

والجارالله صحفي مخضرم مثير للجدال سياسيًا، له ارتباطات مع جميع أنظمة الحكم في البلدان العربية المعتدلة، وترددت حوله أقاويل كثيرة لكنه نفاها جملة وتفصيلا. 

 

وكانت وثيقة رسمية عراقية صادرة عن جهاز مخابرات الحكم المنهار في العراق، قد قالت إن مرسوما جمهوريا صدر بدفع مبلغ 18 ألف دولار شهريا لصالح السيد الجار الله.

 

والمرسوم الرئاسي العراقي حسب الوثيقة كان تاريخه يعود إلى العام 1981 وهو العام الثاني للحرب العراقية الإيرانية التي اصطف جميع العرب والخليجيين معًا كتفًا إلى كتف مع بغداد ضد طهران التي قيل إنها كانت آنذاك تحاول تصدير ما يسمى "الثورة الإسلامية إلى دول الجوار الخليجي".

 

 

لكن رئيس تحرير صحيفة "السياسة" أحمد الجارالله رد على ما زُعم من تلقيه مبالغ من الحكم العراقي المنهار بالقول "كيف يمكن لمؤسسة مثل صحيفة السياسة ميزانيتها بمئات الملايين من الدولارات أن تقبل أن تتقاضى مبلغا زهيدا من هذا النوع من أي جهة أو من أي حكم كان؟".

اتخذت ما يلزم لشد الرحال، والانطلاق للمهمة الجديدة، لأرض الكرم والعبق الساحر. في طريقي للمغرب عرفت الكثير.. والكثير لأحكي عنه!  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز