عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

طُرُقُ البناءِ التقليدي في إفريقيا

د. إسماعيل حامد
د. إسماعيل حامد

تميزت العمارة الإفريقية بوجود طرق تقليدية في البناء، أما عن أهم تلك الطرق التي كان يستعملها السكان المحليون في أعمال البناء الخاصة باستخدام "الطين" باعتباره المادة الأساسية في مدن غرب إفريقيا منذ العصور القديمة.



ويصف لنا المؤرخ العُمري "ت: 749هـ" تلك الطريقة في البناء كما كانت سائدة في مدينة نياني، وهي عاصمة مملكة مالي الإسلامية، على سبيل المثال، حيث كانت تستخدم قوالب الطين المجفف بنسب محددة في البناء لتحديد حجم كل قالب من قوالب الطين المستخدمة في البناء، وهو ما يشير لحرص البنائين هناك على وجود تناسق في البناء، وأن الأمر لم يكن يتم بشكل عشوائي.

ويقول العُمري في روايته المهمة في هذا الشأن: "وبناء هذه المدينة بأيادٍ من الطين مثل جدران بساتين دمشق، وهو أن يُبنى تقدير ثلثي ذراع بالطين، ثم يُترك حتى يجف، ثم يُبنى عليه مثله، ثم يُترك حتى يجف، ثم يُبنى عليه مثله، هكذا حتى يتناهي...".

وتلك طريقة بسيطة في البناء كما يتضح في ثنايا تلك الرواية، وهي طريقة تتوافق بدورها مع طبيعة مادة الطين الهشة والطرية في البناء، ومما لا شك فيه أن البناء باستخدام الطين كان يحتاج صبرًا وجلدًا من جانب العمال والبنائين مع هكذا مادة خام، هذا رغم سهولة البناء بها مقارنة باستخدام الكتل الحجرية. وكان بناؤو غرب إفريقيا يقومون بعمل السقوف الخاصة بالمباني الطينية التي يريدون بناءها باستخدام الأخشاب والقصب، وكانت أكثر السقوف عبارة عن سقوف تتميز بأن لها قبابًا أو طرزًا في هيئة جمالونات على هيئة الأقباب.

وكانت تلك الطرق والوسائل التقليدية تستخدم ولا تزال حتى وقت قريب، في أكثر القرى الموجودة في أكثر مناطق الريف المصري خاصة، وكذلك في مدن وقرى الريف العربي في كثير من البلدان بصفة عامة، وذلك قبل أن تزحف على أراضيها طُرز وتقنيات العمارة الحديثة وتقنياتها، ومن ثمة تهيمن على المشهد فيما يخص العمارة والبناء.

وعن "العمارة الطينية" في المدن الصحراوية، ومقارنتها بالعمارة الطينية في بلاد أخرى، يقول أحد الباحثين: "إنه من المعروف أن المنازل الطينية تبدأ بداية منقطة السباسب، وهو مشهد يكاد يمتد من الهند إلى إفريقيا الاستوائية، وذلك مرتبط طبعًا بندرة الحجارة، وإذا توافرت فتكون ممثلة لمظهر خاص في بناء المدن...".

ومن ناحية أخرى، كان البناؤون يقومون بتقوية قوالب الطين بوضع قطع من الأخشاب، ومن المؤكد أن الغاية من ذلك حتى تستطيع قوالب الطين- وهي مادة لينة بصفة عامة- أن تحتفظ بشيء من القوة والصلابة في ذات الآن، ولهذا يُطلق عليه البعض تسمية: "الطين المُقوى" أو "الطين المضغوط".

ويمكن القول بأن تلك الطريقة التقليدية في البناء باستخدام الطين معروفة في العديد من البلاد العربية التي تغلب على أراضيها الطبيعة أو البيئة الصحراوية، وكذلك تلك التي يقطن سكانها في البيئات الزراعية البسيطة، ولعل منها في القرى والمناطق الريفية بمصر، حيث كانت المباني المشيدة من الطين المقوى بالتبن وغيره منتشرة على نطاق واسع في قرى مصر، وهي طريقة لا يزال البعض يستخدمها حتى اليوم، وإن صارت على نطاق أقل بشكل كبير بسبب إقبال سكان القرى على البناء باستخدام الوسائل والمواد الحديثة في البناء.

ويوجد العديد من نماذج المباني والمنشآت المعمارية الرائعة القديمة التي شيدت من قوالب الطين في ممالك مالي وصنغى، ولعل من أبرزها: مسجد جني، ومساجد تمبكتو مثل مسجد القاضي يحيى، وجامع سنكُري "سنكوري".. إلخ، وكذا مجموعة السلطان إسكيا محمد المعمارية التي تضم قبر هذا السلطان في مدينة جاو "مالي حاليًا"، وهي عاصمة صنغى، إضافة للبيوت والقصور المشيدة من الطين والتي كانت تنتشر بشكل واضح في تلك الممالك.. إلخ، وغيرها من العمائر التي سوف نتحدث عنها فيما بعد بالتفصيل في موضعها في ثنايا هذا الكتاب.

وتذكر بعض المصادر التاريخية أن السكان المحليين في بعض المدن في غرب الصحراء كانوا أحيانًا يستخدمون بعض القناطير من التبن في المعاملات التجارية، وكأن تلك القناطير كانت لها قيمة مادية وسوقية ملحوظة على غرار العملات المعدنية، حيث كان الناس يتصارفون بها بحسب بعض المصادر منذ ما قبل القرن 8هـ/ 14م. حيث يقول ابن بطوطة "توفي سنة 779هـ" في روايته: "وقرية تغازى على حقارتها يتعامل فيها بالقناطير المقنطرة من التبن".  

  ويبدو من الناحية الطوبوغرافية في الأقاليم الصحراوية في أكثر بلاد غرب إفريقيا قلة وجود المناطق الجبلية، أو "المناطق الصخرية" الصلبة بالقرب من تلك المدن، وهي التي كان من الممكن- في حالة وجودها وتوافرها- أن يستفيد منها السكان، حيث يمكن أن تساعد الجبال، أو الهضاب الصخرية، السكان الذين يقطنون بالقرب منها، على الحصول على الكتل أو الأحجار التي يحتاجون لها لاستخدامها في أعمال البناء الخاصة ببيوتهم، ومساجدهم، وقبورهم.. إلخ.

وكان دمج المواد العضوية مع غير العضوية مما اكتشفه المعمار المسلم منذ الإرهاصات الأولى للبناء والتجارب المبكرة في التشييد، كما أنه اقتبس تلك الأفكار أيضًا عن المعمار البيزنطي والساساني، حيث اكتشف بعد كثير من تلك الممارسات البنائية أن دمج تلك المواد مع بعضها البعض يزيد في قوة البناء ومتانته، وامتصاص الصدمات أو الشروخ، وكذلك التصدعات التي ربما تحدث لسبب أو لآخر، وللتخفيف من الأحمال المعمارية المطردة في أوزانها كلما ارتفعت الأسوار، أو الجدران، أو بعض العناصر المعمارية ذات الارتفاعات الكبيرة كالأبراج أو المآذن أو الأكتاف الساندة، أو حتى مجرد الحلايا الزخرفية المنفصلة أو المستقلة.

وكانت الأخشاب مما وفرته البيئة السودانية لحد ما، وتم توظيفها توظيفًا جيدًا في خدمة الأغراض البنائية فيها، إضافة لحماية البناء من ناحية، ومساعدة السكان في العناية الدائمة للبناء، أو ترميمه إذا اقتضت الظروف.

وعلى هذا، صارت قوالب الطين المادة الرئيسة التي كانت ولا تزال تُستخدم في البناء في مدينة "جني" "في مالي حاليا" على سبيل المثال، وفي غيرها من مدن غرب إفريقيا.

ويجدر بالذكر أنه جرت العادة أنه في كل عام يقوم السكان في المدن الكبرى في غرب إفريقيا بإعادة طلاء المساجد ذات القيمة التاريخية والأثرية الكبرى، والتي تحمل لهم أهمية روحية كبيرة بالمدينة التي يسكنون بها بطبقة من الطين، ولذلك تتميز هذه المباني المشيدة من قوالب الطين بوجود دعامات وأربطة من الخشب.

ومن المهم أن نؤكد أن مناطق شمال مالي القديمة، أتاحت قلة الأمطار الحفاظ على المباني الأثرية بشكل أفضل، وتلك حال مساجد جينيه "جني" وتمبكتو، وغاو "جاو".

ونظرًا لقلة الحجارة المتاحة في الكثير من المدن الصحراوية، استعمل البناؤون "الطين المضغوط"، وهو أيضا مقوى بالخشب، وهو ما نتج عنه هذا النمط من مساجد غرب إفريقيا المُقواة بالخشب".

ويؤكد الرأي الآنف أهمية "البيئة الصحراوية"، وتأثيرها القوي في المجتمع، وكذا دورها في ازدهار هذا النمط المعماري التقليدي من أنماط البناء في الممالك الإفريقية جنوب الصحراء، فإلى هذا الحد أثرت الصحراء في عمارة "جني"، وغيرها من المدن الصحراوية القديمة.

كما أن قلة الأمطار بسبب المناخ الصحراوي في هذه البلاد ساهم في الحفاظ على المباني القديمة.

ولا شك أن المجموعة المعمارية الخاصة بالسلطان "إسكيا محمد" والسور المحيط بها في مدينة "جاو"، وهي المدينة التي تقع في دولة مالي، تعد من أبرز نماذج "العمارة الطينية" التي كانت قد شيدت في ممالك غرب إفريقيا القديمة، وذلك إبان حقبة ازدهارها.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز