عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
"الثورة" أنثى الثور!

"الثورة" أنثى الثور!

أمضيت عامًا أتنقل بين لندن والعاصمة الرياض مساهمًا بجهدي الفني في إصدار مجلة "الفيصل".        كان الأمير خالد الفيصل، دائم التردد على المملكة المتحدة، بحكم دراسته للعلوم السياسية والاقتصادية لمدة أربع سنوات في جامعة أكسفورد، وعلاقته بالملك تشارلز الثاني، وأقام معرضًا مشتركًا مع الأمير تشارلز "وقتها"، وكنت ألتقي به دائمًا عند حضوره للعاصمة البريطانية، بدعوة كريمة للغداء بفندق "الريتز" بيكاديللي بمنطقة جرين بارك، مكان إقامته المفضل. 



    معظم لقاءاتنا تدور حول أحلام الأمير بمجتمع عربي مثقف تحكمه القيم والأخلاق، ينشر أضواء الحضارة العربية الموعودة في كل مكان. 

    كان الأمير نموذجًا للمثقف الجديد، وأمنيته أن تمهد "الفيصل" لظهور مثقف جديد: المثقف المختص، أو المثقف الاحترافي بلغة إدوارد سعيد. تأبّط الأمير بدوره قيم التنوير.

    لقائي الأخير معه كان بمكتبه بالفيصلية، استودعته فيها بعد نهاية عام التعاقد، وهو يكرر طلبه ورغبته في بقائي والانتقال للمملكة والتفرغ للعمل معه في مشروعه الثقافي. واعتذرت لارتباط أبنائي بمدارسهم الإنجليزية، لكن الأمير لم يقتنع، موضحًا أن الرياض تضم مدارس أمريكية وإنجليزية، وفي خجل أوضحت ارتباطي بالشركة التي أسستها في إنجلترا والنجاح الذي حققته، وصعوبة التخلي عن ارتباطاتي التعاقدية وعن الزملاء من فريق العمل، الذين عضدوني وساعدوني. 

    تفهم الأمير موقفي على مضض واستأذنت بالانسحاب، ليحتفل بي شركاء العمل بالمطبوعة الثقافية بحفل عشاء، كان نجمه المفضل في المملكة صواني "المنسف".

    ..عدت من المملكة لأتفرغ لمشروعي في خدمة الإعلام العربي المهاجر لبلاد الغربة، ولكل من يريد أن يخاطب العالم العربي من جهات الدولة البريطانية الرسمية ومؤسساتها وشركاتها باللغة العربية. 

    صباح يومٍ، تقدم باستعلامات الشركة شخص متردد، متوجس، يسأل عن المدير المسؤول، رفض الدخول لمكتبي والتحدث في خصوصية، وفضل التحدث إلى بمدخل الشركة أمام أنظار الآخرين، وقدم نفسه لي متلفتًا حوله بقلق: "الأخ علي جليد من السفارة الليبية"، مبديًا رغبة السفارة في طباعة كمية كبيرة من النسخ للكتاب الأخضر، وطالبًا عرض أسعار مع مراعاة أن يكون السعر منخفضًا، فالكتاب لا يباع ويوزع مجانًا. 

    لم يكن لي أي علاقة بليبيا أو التعامل معهم، إلا من خلال شاب ليبي عرفته في بيروت، عبد الرحمن الشريدي، كان يمثل جامعة بنغازي، يعمل من دون توقف. بدأ في المكتبة المركزية، عاشقًا لعمله والكتاب. ثم تولى إدارة النشر في الجامعة. موهبة طبع الكتاب ونشره لدى الشريدي فن جميل. وكان الحصاد كبيرًا.. منشورات الجامعة المختلفة بإخراج وفن. المزيد من المنشورات ذات القيمة العلمية الكبيرة. جهود كبيرة كان وراءها الشريدي وسواه من المخلصين. 

    خبرة الشريدي في هذا المجال رائعة. نزاهة وعفة وعطاء دون انتظار شكر. علاقات في الجامعة وفي دور النشر العربية والدولية. كان نزيه اليد، لا يقبل هدايا ولا دعوات، بل العكس يصر على دعوتك على العشاء في غرفته بالفندق، ورغم أنه مقيم بفندق- ولا أعتقد أن قوانين الفنادق تسمح بإعداد الطعام بالغرف- فهو يصر على عمل "المبكبكة" الليبية، وهي أكلة شعبية من المكرونة والبصل والفلفل والطماطم والبهار، واللحم أو الدجاج أو الجمبري أو بدون، وبالطبع كمية من الحار من الصعب تحملها، ويتكرر المشهد سواء كان بالقاهرة أو بيروت أو لندن، عبد الرحمن الشريدي، رحمه الله، الرجل المخلص لمهنته.. كان عنوانًا للعطاء الأصيل.

    "الكتاب الأخضر" ألّفه العقيد معمر القذافي عام 1975 وفيه يعرض أفكاره حول أنظمة الحكم، وتعليقاته حول التجارب الإنسانية كالاشتراكية والحرية والديمقراطية. 

    اعتبر هذا الكتاب بمثابة كتاب مقدس عند معمر القذافي، الذي حلّ لأكثر من ثلاثة عقود مكان الدستور في ليبيا. 

    أصدر القذافي "الكتاب الأخضر" في سبتمبر/ أيلول 1976، طارحًا فيه ما قدمها على أنها "نظرية عالمية ثالثة" ترفض الماركسية والرأسمالية، وسرعان ما أصبحت أفكار الكتاب المؤلف من ثلاثة أجزاء، سياسية واقتصادية واجتماعية، في كل شارع وفي كل بيت. 

    طالت الكتاب الأخضر الكثير من الشائعات، منها أن الذي ألف الكتاب الأديب والمفكر السياسي الليبي الصادق النيهوم. 

    حكي الروائي والناقد الليبي أحمد الفيتوري، في مقال بعنوان "الهيبي والعقيد"، أن النيهوم نفى ذلك في حضور معمر القذافي نفسه، وكوكبة من الكتاب والمبدعين الليبيين، كان من ضمنهم الفيتوري، والكاتبة فوزية شلالي، وزيرة الثقافة الليبية في عهد القذافي. 

    وذكر أن النيهوم كان في صدارة الجلسة، ما يؤشر لأريحية واضحة كان يتمتع بها في حضرة القذافي، ويشير لمكانته الخاصة التي كان يحظى بها لديه. 

    وقد تبين للفيتوري من سياق الجلسة، رغم نفي النيهوم، أن له دورًا رئيسيًا في الكتابة والأفكار، لكن مسودة "الكتاب الأخضر" قد أُعيدت صياغتها دون رضى النيهوم. 

    واختلف مع رأي الفيتوري فالكتاب يحمل أقوالًا وتعبيرات غريبة لا تتوافق مع مفكر كبير كالصادق النيهوم، منها: "الذي ينتج هو الذي يستهلك"، "الثورة هي أنثى الثور"، كلمة ديمقراطية كلمة عربية معناها "ديمة كراسي"، أي "أن يجلس الشعب على الكراسي"، "أن الأُجراء مهما تحسنت أجورهم، هم نوع من العبيد"، "أيها الشعب لولا الكهرباء لجلسنا نشاهد التلفاز في الظلام". 

    في الشارع الليبي، انتشرت أفكار "الكتاب الأخضر" عبر لوحات إعلانية ومجسمات كونكريتية ضخمة. 

    وفرض على أصحاب المحال التجارية- مهما كانت طبيعة تجارتها- استخدام مقتطفات من الكتاب في اللافتات التي تحمل اسم المحل، من بينها مقولة "شركاء لا أُجراء".

    بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية، ورغم الذكريات السيئة التي يثيرها هذا الكتاب، إلا أن بعض الليبيين لا يزالون يحتفظون به، لمجرد اقتنائه كقطعة تذكارية. لأنه شاهد على حقبة من تاريخ ليبيا، رغم أنها حقبة أليمة". 

    تقدمت بعرض الأسعار الموجه للمستشار الإعلامي للسفارة الليبية، وكان قد أعاد القذافي تسميتها "المكتب الشعبي"، كما أسمى الدبلوماسيين باسم "اللجنة الثورية"، ومقرها ميدان سان جيمس، القريب جدًا من مكتبي، وجاء عرضي الأفضل بين العروض المقدمة من الشركات والمطابع المنافسة، وحصلت على عقد طباعة الكتاب الأخضر. 

    ظل الأخ علي جليد يتردد على مقر الشركة للمتابعة متعجلًا موعد التسليم، ومع كل زيارة يزداد قلقي من الرجل وتصرفاته الغريبة، التي لم أفهمها ولم أجد لها تفسيرًا، فالرجل يحضر إلى مقر الشركة ليبلغ سكرتيرة الاستقبال بوصوله، وينتظرني خارج أبواب المقر للتحدث معي، وتكررت الزيارات المتباعدة حتى تمت مرحلة الطباعة بإحدى المطابع الإنجليزية المتعاون معها، وتم تسليم الكمية المطلوبة، ومعها القوائم المالية للتكلفة حسب العقد المبرم مع المكتب الشعبي الليبي، والتي أصدرتها الدائرة المالية لشركة مودي جرافيك، مع تحديد مدة متفق عليها لتسديد قيمتها بشيك مصرفي، وقيل إن هذا يستغرق عشرة أيام بعد المراجعة والحصول على التوقيعات اللازمة. 

    وفي الموعد المتفق عليه أرسلت مندوبًا لتحصيل الشيك، لكنه عاد بخفي حنين، فميدان سان جيمس- حيث تقع السفارة- مغلق ومحاط بالشرطة الإنجليزية التي تمنع دخول وخروج أي شخص؟!

    .. تدفقت الأخبار عن أحداث مفاجأة وغير متوقعة في الميدان الشهير، وسأحكي عنه.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز