عاجل
الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
النظر من قلب مصر.. قراءة ثقافية في علاقة المركز بالأطراف

النظر من قلب مصر.. قراءة ثقافية في علاقة المركز بالأطراف

ظللت منذ 1986 حتى 1995 من القرن الماضي أقسم أيام الأسبوع بين القاهرة ومسقط رأسي في مدينة أسيوط وصادقت القطار ذهاباً وإياباً طوال تلك السنوات منجذباً لعملي الفني المسرحي ولمشاركتي الثقافية في مسقط رأسي أسيوط. ولذلك عانيت من صدمة مهنية عندما بدأت عملي الاحترافي في العاصمة، لأن الجمهور وطبيعة الفنانين مختلفة تماماً، عن كل ذلك الدفء والتلقائية والإخلاص الإبداعي. 



 

ولذلك لا يغادرني أبداً ذلك الاهتمام بكل الذين يعملون في الأطراف، والشخص الثاني الذي ظللت أتابع عمله بكل إخلاص في الفرقة المسرحية التي أنشأها في قريته "شبرا باخوم" هو المخرج المبدع أحمد إسماعيل. 

وكم كنت دائم الدعوة لضرورة عودة الفنان لمسقط رأسه، وقد فعل الفنان الكبير محمود الجندي ذلك مهتما بتجربتي في أسيوط وأسس فرقة في مركز أبي المطامير بالبحيرة، وعمل معه فيها أبناء أخيه د. عادل الجندي والفنان محمد الجندي لسنوات طويلة. وبالتأكيد توجد أمثلة أخرى عديدة في هذا المجال. 

تذكرت تلك التجربة الممتعة بينما كنت أتابع بكل اهتمام ما ينشره الشاعر الكبير سعد عبدالرحمن عن أدباء وشعراء أسيوط الرائعين في فترة الأربعينيات من القرن الماضي، وكيف كان المجتمع الثقافي حيا في الأطراف ومبدعا وغير مشغول بالشهرة التي تمنحها العاصمة. 

بل وقد ناشدته أن يتفرغ لدراسة تلك الظاهرة في ضوء وجود الجامعة الشعبية في مصر 1945، والتي أصبحت الثقافة الجماهيرية فيما بعد، ثم صار اسمها الهيئة العامة لقصور الثقافة. 

وهكذا تجدد في تفكيري سؤال المركز والأطراف الثقافي وهو سؤال عاود طرح نفسه كثيراً على العاملين والمهتمين بالشأن الثقافي في مصر. 

وقد عاودني ذلك السؤال عندما طالعت بكل اعتزاز وتقدير المبادرة التي انطلقت الأربعاء الموافق الحادي والعشرين من سبتمبر 2022، ألا وهي مبادرة مسرح المواجهة والتجوال بالبيت الفني للمسرح. 

وذلك استمرارا للمشروع الهام الذي بدأته د. إيناس عبدالدايم وزيرة الثقافة السابقة، والذي تثمنه وزارة الثقافة وتدعمه وزيرة الثقافة المصرية د. نيفين الكيلاني، وذلك بالتعاون مع وزارة الشباب والرياضة ووزارة التنمية المحلية، بل والرائع وبمشاركة وزارة الداخلية، بالإضافة إلى تعاون مع عدد من مؤسسات المجتمع المدني. 

وتستمر الانطلاقة الثالثة للمبادرة حتى شهر إبريل من العام المقبل وهي فرصة ذهبية للهيئة العامة لقصور الثقافة كي تعيد تأمل مسارات عملها في الأقاليم المصرية. والمبادرة تبدأ من قرى مصر بعرض حواديت الأراجوز من إنتاج المسرح القومي للأطفال، ومن إخراج محسن العزب، وقد هاتفني مندهشاً بالبشر الجنوبي المبهج من قرية الطود في صعيد مصر، وقد دعوته لتسجيل ملاحظاته على الجمهور وتجربته في تأمل عملية التلقي هناك، فهو جمهور ربما تكون تلك هي تجربته الأولى التي تخاطب وعيه الجمالي وإطاره المرجعي عبر العرض المسرحي الحي مكتمل العناصر. 

الجميل حقاً أن الفنانين المشاركين في المبادرة يشعرون بأنهم يفعلون فعلاً فنياً وثقافياً مهماً. 

ولا يسعني في هذا الصدد إلا أن أثمن بكل احترام الجهد والإخلاص المهني للمخرج محمد الشرقاوي المسؤول عن مبادرة مسرح المواجهة والتجوال. 

كما يجدر الذكر أيضاً أن هذا الاهتمام الأكثر حضواً وانتظاماً بالأطراف يأتي في إطار المبادرة الأم مبادرة حياة كريمة التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهي مبادرة ترى الثقافة والفنون كمكون رئيس من مكونات الحياة الكريمة. 

ويحدث ذلك في إطار اهتمام واضح نتمنى ازدياده وازدهاره بشكل مطرد ومستمر خلال السنوات القادمة، في اهتمام الدولة الرسمي ومشروعاتها الثقافية. 

وهي الأداة الهامة مع التعليم في مسيرة الإصلاح والتقدم. ولكن تبقى ملاحظات منها ضرورة التفكير المعاصر في علاقة المركز الثقافي بالأطراف المصرية. 

وفي هذا الأمر يجب تأمل عملية قيام الأطراف بإعادة إنتاج المركز. وهي عملية خطيرة على مسألة التنوع الثقافي المصري. 

ذلك أن العواصم تظل أكثر جاذبية وتأثيراً بالطبع، وهي التي تصنع النماذج الجديدة وتقدم علاقة غريبة في تبادليتها مع المدن الأخرى الأصغر من حيث موقعها في الأطراف ومن ثم القرى الأكثر بعداً، والتي علينا إدراك أهمية منعها من إعادة إنتاج المدن الأصغر والأكبر في ريفها الأصيل. وهو الأمر الذي أدى إلى تغير في هيئة القرى وعلاقاتها تزامناً مع انتشار لثقافة الريف في المدن الكبرى، مما أدى لصناعة ارتباكات عديدة واضحة في القاهرة وعواصم الأقاليم وأطرافها. 

فالمركز يستطيع الهيمنة على عقول الأطراف على نحو تراكمي، وذلك من خلال أطر العملية الثقافية التي يمر عبرها التدفق الثقافي من المركز نحو الأطراف.

ولهذا فيجب أن ننتبه في العمل الثقافي في الأطراف لحقيقة مهمة ألا وهي أن الأطراف تملك ثقافات مبدعة. وإبداعاتها تميل لتقليل حجمها وتبسيط تصميمها، ولذلك فهي تصلح للنقل من مكانها الأصلي للمركز. 

وهي العملية الثقافية التي لم تحظ بالتأمل، والتي تحتاج لأن نعالجها بكل اهتمام. 

فثقافات الأطراف يجب أيضاً أن تنمو وتزدهر وترحل بشكل منظم للتعبير عن نفسها في المركز، وذلك أحد أهم أوجه العدالة الثقافية. 

وفي ذلك يمكن وضع مبادرات وخطط لدعم وتحفيز الإبداع والتلقائية، وأيضاً في إطار الصناعات الإبداعية والثقافية وتنوعها الثري. 

وهي مسألة يمكن أن تحدث بالانتقال والسفر الواقعي ويمكن أيضاً أن تحدث عبر استخدام التكنولوجيا الأثيرية الرقمية المعاصرة كي تعبر القرى والمدن المختلفة نوعياً عن إبداعاتها ووعيها.

وذلك في النوبة والأقصر وطنطا والسلوم وسيناء وغيرها بما تحمله من تنوع ثقافي مذهل، فليست أقاليم مصر متماثلة ثقافياً بالتأكيد، وإن اشتركت بالطبع في القواسم الثقافية المصرية الأساسية. 

يجدر أيضاً أن نتأمل ملاحظة تبدو غير ذات صلة إلا أنها ملاحظة جوهرية إذ يجب احتراماً لجهود التعليم والعمل الثقافي الجاد في مصر مراجعة ما تقدمه الدراما التليفزيونية وبرامج التسلية الفاخرة. 

حقاً يجب مراجعة الإنتاج الإعلامي الكبير حتى لا يتناقض مع مشروعات التحديث المستمرة خاصة في مسألة صناعة الوعي الجمالي والفكري، وهذا الإنتاج الإعلامي لا يجب أن يقدم النماذج المضادة، كما يجب عليه أيضاً إدراك أن أطراف مصر المبدعة تنتج وستظل تقدم المواهب العديدة المدهشة. 

عن تأثير الأطراف في المركز أطرح السؤال مجدداً، وليس رحيل ثقافة المركز للأطراف دائماً، وهي آمال كبيرة تستحق الحديث عنها ثقة في مصر الحاضر والمستقبل.   

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز