عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

المعماري أبو إسحق الأندلسي رائد العمارة الطينية في غرب إفريقيا

د. إسماعيل حامد
د. إسماعيل حامد

برز اسم المهندس المعماري الأندلسي "أبو إسحق الساحلي" في مملكة مالي بشكل لافت، وتحديدًا منذ النصف الأول من القرن 8 الهجري/ القرن 14 الميلادي، بسبب دور هذا المهندس المعماري المهم في تطور العمارة التقليدية، وطرزها في القارة الإفريقية بصفة عامة، وفي غرب إفريقيا خاصة.



 

وينطق بعض المؤرخين اسمه: أبو إسحق السهيلي، أو السهلي، والاسم الأول (أي: الساحلي)، هو الأشهر، وذلك بحسب ما ورد في ثنايا المصادر العربية، فهكذا يذكره كل من ابن بطوطة، والسعدي (صاحب تاريخ السودان)، وغيرهما.

 

وتذكر بعض الروايات أن أبا إسحق الساحلي كان قد ولد في سنة 1290م، وأنه مات ودفن في مدينة تمبكتو في سنة 1346م. وهو ما يعني أنه مات بعد وفاة السلطان منسا موسى بحوالي 8 سنوات تقريبًا، حيث مات منسا موسى في حوالي سنة 738هـ. 

 

ولقد لعب المهندس المعماري أبو إسحق دورًا مهمًا في ازدهار العمارة في المدن الكبرى في مملكة مالي، لا سيما مدينة تمبكتو، إذ يُنسب لهذا المهندس الفضل في إحداث ذلك التطور المهم الذي حدث فيما يخص طُرز العمارة الطينية في غرب إفريقيا خلال القرن 8هـ/14م.

 

وتشير المصادر إلى أن المهندس أبا إسحق كان يلقب أيضًا بلقب "ابن الطويجن". وقيل لقب بـ"الطويجن"، وهي في الغالب تسمية نسبة لاسم البلد التي نشأ بها، قال عنه السعدي: "وهو الشاهر بالمعاني، الغرناطي، المعروف ببلده بالطويجن..". بينما يذكره ابن خلدون بلقب: "الطونجك"، وليس الطويجن. أما اسمه دون اللقب، فكان يدعى: "إبراهيم الساحلي". كما تحدث عنه الحسن الوزان، وعن مسجده الذي بناه من الطين في تمبكتو، حيث قال في وصفه: "ويقع في وسط المدينة الجامع المبني بحجارة منحوتة مع طين الكلس.. على يد مهندس من الأندلس..". وهو كلام يؤكد ذيوع فكرة البناء بالطين مع استخدام الأحجار بهدف تقوية البناء في ذات الوقت.

 

وتتحدث المصادر أنه بعد أيام أبي إسحق الساحلي ومنسا موسى بأكثر من قرن من الزمان، طلب السلطان إسكيا محمد (899-935هـ) حاكم صنغى، أو ملك التكرور، خلال رحلته التي قام بها للحج أيضًا من أحد المعماريين من بلاد الأندلس أن يرجع معه في رحلة العودة ليشرف على العمائر والمنشآت التي كان يريد إسكيا القيام بها، لا سيما قبره المعروف بـ"القبر الهرمي" في جاو.

 

وهو ما يتشابه مع ما حدث فيما بين السلطان منسا موسى وأبي إسحق من قبل، غير أن المصادر لم تحدثنا عن اسم المعمار الأندلسي الذي كان معاصرًا لأيام إسكيا محمد، وأنه قام بالإشراف على بناء مجموعته المعمارية في جاو. 

 

ولم يكن أبو إسحق مهندسًا ماهرًا، أو معماريًا حاذقًا فحسب، بل إنه كان يشتهر بالكتابة، وفنونها، إذ كان أبو إسحق شاعرًا ماهرًا، حاذقًا، ولهذا يوصف بهذا الأمر بحسب العديد من المصادر، وعلى هذا يصفه المؤرخ السعدي صاحب تاريخ السودان بأنه "الشاهر بالمعاني".

 

ورغم أن الرحالة الوزان لم يذكر اسم المهندس أبي إسحق صراحة في روايته، إلا أنه يقصده دون غيره، وهو ما تؤكده المصادر الأخرى التي سبقت أيام هذه الرحالة الذي عاش في القرن 10هـ/ 16م، وكذلك المصادر التي كانت لاحقة عليه كما في رواية السعدي في تاريخ السودان، وكان أبرز من سبقوه وتحدثوا عن هذا المهندس ما أورده ابن بطوطة في روايته المهمة. وبحسب بعض المصادر.

 

فقد ولد هذا المهندس المعماري في احدى مدن الأندلس، وقيل كان اسمها: ألمالة. وربما يقصد الوزان بها مدينة "ألمرية" (أو "المارية")، لا سيما مع القرب الجغرافي بين كل من هاتين المدينتين. وقيل كان اسم بلدته: "الطويجن" بحسب روايات أخرى.

 

ويرجح أن المهندس أبا إسحق كان قد ولد ونشأ بمدينة "غرناطة" Grenada في بلاد الأندلس، وهو ما يؤكده ابن بطوطة، وغيره من المؤرخين، الذي يذكره بلقب: "الغرناطي".

 

وفي الغالب أن هذا المهندس ربما ولد ببلدة صغيرة (وهي الطويجن)، ولعلها كانت من القرى الواقعة بمدينة غرناطة الأندلسية، والغاية من ذلك بهدف محاولة الجمع والتوفيق قدر الإمكان بين كل من الروايات التاريخية التي تحدثت عن نشأة المهندس أبي إسحق، ومولده في بلاد الأندلس. 

 

وعلى هذا، يرجع الفضل في ذلك التطور الذي حدث في "العمارة الطينية" للمهندس أبي إسحق الذي كان قد أقنعه السلطان "منسا موسى" ملك مالي خلال تلك الرحلة الدينية التي قام بها لأداء مناسك للحج (سنة 724-725هـ/ 1324-1325م) بالقدوم لأراضي مالي بعد ما لاحظ عليه، وما سمعه عن مهارته في البناء والعمارة، ومن ثم أقنع منسا موسى المهندس الأندلسي بالاستقرار في بلاده.

 

ولقد كانت غاية حاكم مالي أن يساعده هذا المهندس في بناء القصور والمساجد التي كان يحتاج لها هذا الملك في بلاده. 

 

ويبدو من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن للعمارة المغاربية أثرها بحكم الموقع على الغرب الإفريقي في معظم المجالات، وفي مجال العمارة اقتبست المملكة هندسة وطرق البناء على يد المهندس أبو إسحق الساحلي الذي استخدم بعض سمات البناء على الطراز المراكشي، وما يتسم به من القباب، وأسطحه المستوية، كما أن المهندس الأندلسي كان قد استخدم "الكَتل الكلسية" في أعمال البناء.

 

  ويُشير البعضُ إلى أن الطُرق والعناصر المعمارية الجديدة التي استخدمها أبو إسحق الساحلي في بلاد غرب إفريقيا، لا سيما بمدينة تمبكتو، تُشكل في حد ذاتها ثورة في العمارة والبناء في هذه البلاد، وذلك مقارنة بحال العمارة المحلية هناك قبل قدوم هذا المهندس.   

 

ويرى البعضُ أن دور أبي إسحق في ازدهار العمارة (لا سيما في تمبكتو على سبيل المثال) يبرز من خلال قيامه بتشييد العديد من المنشآت باستخدام الطين، ومنها: قصر للسلطان منسا موسى، وكذلك بناء مدرسة "جنجر بير" Djinguere-Ber، كما أنه بنى مسجدًا في جاو، ويقال إن أبا إسحق كان قد شاد أيضًا مسجدًا بجامعة سنكوري (في تمبكتو)، وهذه المدرسة كانت تُعد إحدى المدارس الثلاث داخل تلك الجامعة، وتذكر بعض الروايات أنها تكلفت زهاء 12 ألف مثقال. 

 

وكان منسا موسى يحسن معاملة هذا المهندس الأندلسي، وكان يكثر تقديم العطاء والأموال له. ولعل هذا من أبـرز جوانب كرم وجـود هذا السلطان، حيث تتحدث المصادر عن مدى تشجيعـه للعلماء وطلبة العلـم، وإغـداقه عليهـم بالعطايا لتشجيعهـم على الإقبال على طلب العلم، والجد فيه. وتذكر بعض المصادر أن منسا موسى كان قد أعطى أبا إسحق الساحلي 4 آلاف مثقال من الذهب، وكان ذلـك العطاء في يوم واحد. 

 

 

ويبدو أن كثرة العطاء التي كان يظهرها ملك مالي تجاه المهندس أبي إسحق لمزيد من التحفيز له على البقاء في بلاده، ولتشجيع ذلك المهندس الأندلسي على مزيد من البناء والعمران في بلاده. وعلى هذا يُعد المهندس الساحلي رائد انتشار ذلك الطراز التقليدي من "العمارة الطينية" في مالي. 

 

ولا شك أن المهندسين المحليين في هذه البلاد كانوا قد تعلموا على يدي أبي إسحق الساحلي الكثير من فنون وصنعة البناء بالطين، وزادت مهاراتهم بفضل توجيهاته، وارشاداته لهم. وعن انتشار "العمارة الطينية" في العديد من المدن الأثرية القديمة في غرب إفريقيا، ودور أبي اسحق في انتشارها، وازدهارها بالمملكة، يقول الوزان: "وبيوت تمبكتو هي أكواخ مصنوعة من أعمدة مطلية بالطين.. ويقع في وسط المدينة الجامع المبني بحجارة منحوتة مع طين الكلس على يد مهندس من الأندلس (يقصد أبا إسحق)".

 

وعن الدور المهم الذي قام به المهندس الأندلسي فيما يخص انتشار طراز "العمارة الطينية"، وذيوعها بشكلٍ كبير في العديد من المدن في ممالك غرب إفريقيا القديمة، يقول المؤرخ الإفريقي "جبريل نياني" Djebril Niani: "وما من شك أن مهندس السلطان (أي: أبا إسحق) قد استعمل أكثر المواد شيوعًا في هذه المنطقة من السودان (غرب إفريقيا)، وهي الطين المضغوط، والمباني المشيدة بمثل هذه المادة.. تستدعي الترميم بشكل مستمر.  

 

 

متخصص في التاريخ والتراث الإفريقي

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز