عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

د. إيمان ضاهر تكتب: طه حسين

د. إيمان ضاهر
د. إيمان ضاهر

لم ير النور يوماً لكنه أضاء الكون بفكره وحكمته.. عندما أسمع كلمة ثقافة أقوم بإخراج محراث سيدي العميد وأناديه  قائلة: "كم أنت كبير يا أستاذي الأديب وستبقى".



محراث ثقافته وفكره كان جوهر حياته، نور عينيه الذي فقده طفلاً، حرك "نار المعرفة في التنور" فباتت غذاء روحه، والدم الأحمر الذي يسري في عروقه المتمردة، التي لا تنضب من الآراء الجريئة والشجاعة والإقدام في الدفاع عن علمه.

 

وحتى آخر يوم في حياته ظلت أمانة العلم ثقيلة جداً، لا ينهض بها إلا الأقوياء وقليل هم.

" فالويل لطالب العلم إن رضي عن نفسه.."

أتحدث عن ثقافة طه حسين الذي شق أرض المعرفة بصمود لا يقاس في المثابرة الدؤوبة لنشر فكر التنوير المتجدد بأصالة القديم، وحتى اليوم لم يجف معين أدبه، ما زال يفيض بحراً من الجواهر، يقذف وروداً من الأضواء الفكرية لتغيير المجتمع.

 

هذه الثقافة، أليست نتاج الفرد والمرايا الحاسمة التي ترسم صورته الحقيقية؟

 

أليست تربية للروح "المعذبة على الأرض"؟

 

وأليست مثل البذور تتطلب تربة خصبة، وإلا لا أمل في الحصاد؟

 

إنها الآمال الكبيرة لأسطورة نادرة في المعرفة العربية، أدركت الكون بتبصر، بكل حساسيته المرهفة والعميقة، والتي طورها ببراعة مذهلة.

 

هذا الأديب "الواعد بالحق" أدرك ببصيرته ما لم يدركه أمة من المبصرين في المجال الثقافي، لتطوير الفكر وتجانس الممارسات اللغوية، واتساق المفاهيم المتأصلة في بناء الأدب والشعر، وأي علم معرفي، من خلال البعد الحضاري والتاريخي للأمة المصرية.

 

أليس الأديب طه حسين نموذج الفكر الملتزم والمتفهم لواقع عصره؟

 

ألم يكن المدرك لهموم جيل مجتمعه، والمتخذ لمواقف جبارة من أجل مجانية العلم؟

 

" لا تكتم علماً كي لا تجزئ إثما..." فتحديث العلم العالي كان شغله الشاغل، ارتقاء الإرادة الفلاحية المتواضعة في نشر العلم ونثر الأدب.

 

أين تكمن معجزة طه حسين؟ 

 

عزيزي القارئ، إعجازه ينبع من هذه البسالة في تعليم الناس، أراد أن يبصر الإنسان بواقع أمره، العلم كالماء والهواء، وتلك هي العظمة الكبرى في بناء الفكر المجتمعي.

 

طه حسين، كاتب رحلة الأيام، السيرة الذاتية لرائد اللغة العربية، في ثلاث مجلدات تنسج حياة الكاتب، في معاناته من فقدان البصر، وأيام طفولته في قريته ومن ثم انتقاله إلى الأزهر الشريف، واعترافه: "بورك من جمع بين حكمة الشيوخ وهمة الشباب". 

 

وكتاب الأيام يعلمنا نهج السيرة الذاتية البليغة، وهيكل السرد الرائع بلا منازع.

 

نحن مدينون لراوي "دعاء الكروان" وقد أورد وقص علينا الحوار البناء، بوضوح الوصف وفصاحة الأسلوب المبدع، وقد خلق المعنى للحكمة والوعي الذاتي، للتأمل في نفسه، وترجمة هذا التأمل للقارئ.

 

أليس كل عمل صالح عبادة؟ وما قيمة الكاتب إذا لم يغضب قراءه؟

 

الأديب المتنور والكفيف، الذي أضاء العالم من حوله، أثارت أراءه وأغضبت الكثيرين، ووجهت إليه الاتهامات "المملة والهشة" حسب رأيه، حول كتابه "في الشعر الجاهلي"، ليقول لنا إن التعصب وحش، وعندما تصبح جعبتنا فارغة من حقائق جدلية وواقعية نتحدث عن الآخرين بسوء.

 

لم يأت يوماً بأدلة مضللة، إنما كان يتحدث عن الشعر وقوانينه التي تتغير مع الزمان.

 

وهناك كم من الأفكار الغارقة في قاع الروح، أكثر من قاع البحر، إذ أن التحديث في الشعر ليس إلا تبيان قدرته وجاذبيته على السمو بلا نهاية، وقيمته أمس واليوم وغداً، وكأنه النهر الخالد.

 

لقد عانى الأديب طه حسين، من الأذى من الذين أراد تطويرهم، لفهم الأخطاء البلاغية والتاريخية التي لا يمكن ارتكابها في بناء "أمة عريقة" مثل"أم الدنيا" أم الأوطان، وملتقى الحضارات.

 

واتخليه يردد لنا بأن الضمير المرتاح أحسن من المصير المزدهر، والنوم الجيد أوفر من السرير الجيد، والحرية والعدالة بدايتهم حيث ينتهي الجهل.

 

أصدقائي القراء، تذكروا أن السيد الجدير بالسيادة هو الذي لا يطغى إن استغنى ولا يذل إن احتاج". 

 

ثم يأتي العمل الفكري والتحصيل والمتابعة من أجل تقدم المجتمع وتطوره دون حدود.

 

هذا المفكر العملاق، المثير للجدل في كل ما قال، وخاصة في أطروحته عن الفيلسوف "المعري"، المخيف في شكه، والكبير في لقاء اليقين والإيمان. 

 

لم يؤمن طه حسين بالشك لأجل الشك، إنما لأن الشك طريق العظماء للوصول إلى الحقائق والابتعاد عن عقلية الفكر المنقول، والإبقاء على القديم.

 

كان "أبو العلاء" الكبير، والأعمى، مثاله الأعلى في الفكر، كما هو أيضاً "ابن خلدون ومدينته الفاضلة". 

 

إنه الفكر العلمي لا اللاهوتي، وشرح لمجتمعه كيف تفوق الفكر الإسلامي، وعظمة الحضارة العربية.

 

قرائي الأحباء، انظروا إلى هذه المسيرة التي يملؤها النشاط والطموح والانفتاح، لملتقى الحضارات الغربية وخاصة الفرنسية. 

 

فلماذا أحب فرنسا وعشق فلسفتها؟ 

 

طه حسين، عين على الشرق الحبيب، وأخرى على الغرب الواعد.

 

تزوج الفرنسية سوزان بريسو، وعاش معها في الحلو والمر، فكانت نوره الذي يبصر به جمال الدنيا، ويبوح لنا العميد المحب، بأنه منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم.

 

بدونها كان يشعر أنه حقاً أعمى..." قائد الفكر العربي لم يعرف موطناً وأمة إلا "مصر".. وفرنسا بالنسبة له جسدت الحب والمودة والإنسجام بين حضارتين، العربية والغربية.

 

معرفته بالعالم الاجتماعي "دوركايهم" صقلت دراساته الاجتماعية، فوضع قلمه الفذ والنابض في خدمة حوار كبار الأدباء، وترجمة أفكارهم لإصلاح وتنشيط الأدب العربي، فترجم فولتير وجيد وراسين وديكارت، وهم من جواهر الأدب الفرنسي الخالد، ومن هنا أتقن عدة لغات وحضارات كاليونانية والرومانية، بهدف ربطها بالحضارة العربية العريقة، فأسهم في بناء جيل جديد، جيل المثقفون، هؤلاء أثروا أمتهم الغالية من خلال أسفارهم وعلاقاتهم المثمرة بالغرب.

تأملوا معي أيها القراء الكرام، هذا المفكر، إنه استثنائي ولن يتكرر، آياديه بيضاء على العلم والثقافة، الفن والأدب.. قدوة لا تزعزع، إرث كبير لكل زمن، وخاصة ليومنا هذا، في الصدق والاجتهاد والأمانة في صون الأفكار وتصحيحها من الموروثات البالية. 

 

ولا عجب أن يقلد بأعلى وسام للأمة المصرية، من زعيم العروبة الأصيل "جمال عبد الناصر"، ولا يسعني ذكر أوسمته وتكريماته والحفاوة في كل موطن زاره وحاضر فيه. 

 

إن قلادة النيل، استحقها ابن النيل النبيل، هذا المقاتل النابغة، كان يردد: "فإذا ابتسم الصبح، وأشرق الضحى، واستيقظت الحياة ذابت كل المروعات".

 

وأخيراً، تحية لأم الدنيا، أم العمالقة الذين أثروا الأدب العربي والإنساني والعالمي... الله عليك يا مصر، والله على أبنائك المبدعين.. ولا يزال نداء ابنك البار طه حسين، يؤكد للعالم أجمع: "مصر خليقة أن يحسب لها حساب حين ترضى، وأن يحسب لها حساب حين تغضب، وأن يحسب لها حساب حين تريد.."

 

ألسيت هذه "مصر" اليوم، جمهورية جديدة وعريقة ومتألقة، يتأبط ذراعيها قائد عظيم قدوة لشعبه الوفي والشجاع.

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز