

محمد هاشم
مواقع القطيعة التي فرقتنا
تربى جيلنا في بيوت شامخة عالية تتجاوز فلك الثريا، لم تكن أبدًا قصورًا منيفة أو سرايات بحدائق خلابة، بل بـ"الطوب" الأخضر والأحمر أو الخرسان ولكن تخر لعظم هيبتها البيوت، قوامها من الفولاذ وجدرانها من الأدب.
بُنيت هذه البيوت وشيدت بلبنات الأخلاق والاحترام، حفرت قواعدها بالأصول وسطحت سقوفها بالتدين المعتدل الوسطي.. ما زلت أكتب ولن أكف أبدًا ما حييت، ولن أتوب عن الصراخ في أوراقي والكتابة في مقالاتي والضجيج في حديثي عن المطالبة بغلق مواقع التفرقة المجتمعية، "مواقع التواصل الاجتماعي"، هذه المواقع التي فرقتنا جعلت الأب والابن والأم والزوجة والأخ والأخت، الكل يعبث بهاتفه وهم في حجرة واحدة أو صالون واحد مجتمعين، ولكنهم متفرقون متلاصقون، ولكنهم متباعدون كلٌ في عالمه، كلٌ يقيم في خياله.
ما هذه التفرقة، ما هذه القطيعة، ماذا حدث لنا؟ نتواجد ولكننا غير موجودين نصنع بطولات وهمية عبر "الفيس بوك"، ترى أشخاصًا يقيمون لأنفسهم كيانًا وشخصية مخالفة تمامًا عن الواقع صاحب "الأكونت" شخص وداخله شخص آخر، هذا بالتأكيد ليس المهم. لكن الأخطر هذه التطبيقات التي دفعتنا إلى التقليد الأعمى وغذت روح العنف والجرائم ومحاولة الربح المادي بجمع المشاهدات ولو على حساب الأخلاق، خاصة تطبيق "التيك توك"، الذي يعيث الفساد في البلاد. الصين منعت "الفيس بوك"، واستبدلت تطبيقات مغايرة عن الموجودة، للحفاظ على الأمن الاجتماعي.
وأنا هنا أطالب بتقنين مواقع التواصل الاجتماعي، وغلق بعضها كالتطبيقات الخطيرة التي لم أر لها فائدة أبدًا كتطبيق "التيك توك".. ماذا قدم لنا هذا التطبيق؟ أخبروني ما وجه الاستفادة؟ لدينا تطبيق رائع "الواتس آب"، ويساعد في إنجاز المهام، ولكن ماذا قدم "التيك توك" سوى الانحراف الأخلاقي والتطرف الفكري والشذوذ المجتمعي؟ أغلقوا هذا التطبيق، فهذه المواقع قادتنا إلى تدني الذوق العام، تركنا الفن الجميل والثقافة الراقية، واتجهنا إلى أشخاص يدعون الفن وهم يعلمون تمام العلم أنهم غير مقتنعين بأنفسهم، أنا أتعفف عن ذكر أسمائهم هنا. هؤلاء عقولهم خاوية، ضمائرهم تعاني من الالتهاب المزمن، يطلون علينا بصدور مليئة بالعضلات الكاذبة الملتهبة.
وأنا أعيذكم أن تحسبوا الشحم فيمن شحمه ورم، في الحقيقة صدورهم خاوية وأفئدتهم هواء، يقدمون فنًا هابطًا ورسالة خاطئة كاذبة تضلل وتدعو للهلاك. نعود إلى مواقع التفرقة التي جعلتنا نعزف عن القراءة وعن مطالعة الكتب فقط، نتصفح الفيس والتويتة و"التيك توك" وغيرها، مسألة إتمام قراءة كتاب أمر صعب، وهنا لا بد أن نتوقف ونحاول أن ننقذ ما يمكن إنقاذه.
يا سادة.. شاهدت مقطع فيديو لأديبنا الكبير طه حسين، جعلني في ذهول حقًا، عندما شاهدته تحسرت، ومن الوهلة الأولى أقشعر جلدي وشخص بصري، وتوقف ذهني ما هذا؟ أديبنا الكبير طه حسين يعيب على عمالقة الأدب أنهم لا يقرأون وهؤلاء الذين لا يقرأون عندما تسمع أسماءهم حقًا ستصعق، يعيب على الكتاب الكبار يوسف السباعي وثروت أباظة وأمين يوسف غراب وعبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ وأنيس منصور وكامل زهيري أنهم لا يقرأون ولا يكتبون بعمق أو أنه لا يرى العمق في كتاباتهم.
عميد الأدب العربي، يعيب على عملاقة الأدب، فماذا لو نظر إلى حالنا اليوم؟ أترك لكم الإجابة. كلنا مقتنعون أن هذه المواقع عزلتنا عن القراءة، وأثارت مشكلات لا حصر لها، أخلاقية وسلوكية وثقافية ومجتمعية ونفسية، خاصة تطبيق "التيك توك"، والذي أراه أثار مشاكل كبيرة وجرائم جديدة خلال الـ5 سنوات الأخيرة، شاهدنا الغريب والجديد ودفعنا إلى العنف المفرط، والذي لا سبب ولا داعي له، فأسهل شيء هو القتل بسبب شيء تافه قد يكون "موبايل"، أو خلافًا على 50 جنيهًا أو مشادة كلامية أو خلافًا على أولوية المرور بالطرقات، فلا تلوموني إن قلت أغلقوا هذه المواقع.
ويا قومي مالي أدعوكم إلى النجاة، وتدعونني إلى الفيس بوك و"التيك توك"، ويا قوم الخلوق صدوق والعنيف ضعيف والأصيل نبيل والحليم حكيم.