عاجل
الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
صلاح عبد الصبور.. المسافة بين الفكرة والقدرة

صلاح عبد الصبور.. المسافة بين الفكرة والقدرة

إنه الشاعر الكبير محمد صلاح الدين عبد الصبور يوسف الحواتكي (مايو 1931 – أغسطس 1981)  الشاعر الأكثر جاذبية وتأثيراً وإلهاماً للموهوبين وعشاق الشعر. إنه صلاح عبد الصبور ذلك الذي يرى الكون بمنظور الحزن النبيل، حزن مصدره السؤال الوجودي عن جدوى وجود الإنسان في هذا العالم المليء بكل أصناف الشرور والقسوة والمعاناة. ولد في مدينة الزقازيق، وتعود أصوله إلى قرية الحواتكة بمحافظة أسيوط. وللمكان تأثير كبير في النظرة للحياة، فهؤلاء الذين يسمونهم المصريون أبناء العمومة، أهل الصعيد وأهل الشرقية يحملون صفات وراثية مشتركة في النظر للحياة، وتتملكهم تلك العاطفة الحارة المتفجرة التي يمنع التعبير المباشر عنها صفات أخرى مثل الرغبة في عدم الإفصاح والحرص على إبداء الصلابة وعدم البوح، وعناد حاد وشخصية ذات طابع خشن، على ما بين تلك الصفات من تناقض. كان أيقونة جيلي في مرحلة المراهقة، كنا نحفظه ونردده، بل ونتلوه لبعضنا البعض في المدرسة الثانوية. وكان عشقي له ولمسرحه هو الباب الكبير الذي دفعني لعالم الدراما والمسرح. فمالي لا أدخل هذا الطريق بينما يضيء فيه نوراً وهاجاً وعشقاً إلهياً، وإيماناً بالعدل والإنسانية صلاح عبد الصبور. كان الشعراء في مسقط رأسي أسيوط ينتسبون إليه، ويحلمون به، كان هو الملهم للشاعر درويش الأسيوطي وللشاعر سعد عبدالرحمن، وهكذا قاتل الأدباء في أسيوط كي نحصل عليه أسيوطياً صعيدياً وفقاً لجده، وكي ننتزعه من ميلاده ونشأته في الشرقية. كانت فكرته الأثيرة عن المسافة الشاسعة بين الفكرة والقدرة هي الشاطئ الذي يبكي عليه جيلنا عندما لا تسعفه القدرة على إدراك الفكرة.



كان وهجه الصوفي في كراهية الظلم وفي رؤيته للإنسان الحر شارة على الإيمان بالله، والسعي لتحقيق جمال الكمال وكمال الجمال في سعي الإنسان لتحرير الروح من ثقل الجسد.  وهو شاعر مدهش جداً في قدرته على اجتذاب الأجيال المتتالية لشعره الحر، الذي يأتي في أسطر متتابعة تحمل حكمة ورقة الشعر المصري القديم، بكل هذه البلاغة العربية المعاصرة. لقد أخرج صلاح عبدالصبور الشعر الفصيح، والمسرح الشعري من برجه العاجي، ليتحدث مثلما يتحدث الناس، لكنه حقاً حديث ساحر جداً. ربما تكون سطوري تلك عنه لا تعدو إلا بعض من ولعي به. أعماله ودواوينه وكتبه النثرية ومقالاته وحياته المهنية معروفة جداً، ولست بحاجة هنا لتكرارها.

ولذلك أصبح السؤال هو سؤال لذاتي لماذا لم أكتب عنه دراسة أكاديمية محكمة، ربما لأنه ذلك الولع الشخصي الذي جعل إبداعه الشعري بالنسبة لي هو المرفأ الذي أستريح عنده من لهيب الحياة اليومية وقسوتها. صلاح عبد الصبور لا يتبادل أشعاره الشباب عندما يراسلون حبيباتهم، صلاح عبدالصبور هو الذي يعود المثقفون المصريون والعرب له عندما تقسو عليهم الأزمة بين القدرة والفكرة، بين الواقع والحلم. إنه تلك السلوى الوجودية الإنسانية التي نعود إليها كي نبكي بلا دموع وكي نصلي في محبة الله عشقاً إلهياً.

إنه الراحة الشعورية عندما نصل إلى تلك اللحظة التي تغنى فيها مع الحلاج في مسرحيته مأساة الحلاج: وماذا يفعل الإنسان إن جافاه مولاه؟ يضيق الكون في عينيه، يفقد ألفة الأشياء  ولاستعادة تلك الألفة عدت لقراءة واحدة من أهم مسرحياته وهى مأساة الحلاج، كي أحيي ذكراه في قلبي رحمة الله رحمة واسعة. ومأساة الحلاج 1966، لازالت تبدو معاصرة، وستبقى لأجيال قادمة شأنها شأن الإبداعات المسرحية الأصيلة المشرقة، هي تسأل عن معنى الفقر، ودفع الناس للقسوة والقتل والكراهية بسبب الفقر، هي مسرحية تعيد تعريف الفقر بأنه ليس الجوع إلى المأكل والملبس، بل استخدام الجوع لإذلال الروح. هي أسئلة في الحب الإلهي والعطف الكبير على البشر.

هي السؤال الدائم عن تلك المسافة المؤلمة، مسافة الأشواك الوجودية بين الفكرة والقدرة، وكأنها تعبير عن قدر الشعراء والفنانين والحالمين بتحسين وجه الحياة، هؤلاء الذين يتوقون إلى النور. وهى مسرحية حداثية جداً، رغم أنها تدور عن قطب من أقطاب الصوفية، إلا أنها تدعو إلى إعمال العقل، وتشجع على الزهد والاستغناء. تأتي مأساة الحلاج في قسمين الأول هو الكلمة والثاني هو الموت. وهى التي قدمها سمير العصفوري المخرج الكبير عام 1967 على مسرح دار الأوبرا الخديوية. لم يكن صلاح عبد الصبور من المنتمين لليسار المصري التقليدي كما يعتقد الكثيرون، وكما يبدو من عالمه الشعري للوهلة الأولى.  كان صلاح عبد الصبور مثقفاً حالماً مؤمناً بالعدل، كسؤال هام يجب أن يظل السلطان يسأله يومياً لنفسه، ويجب أن يسعى الإنسان لإدراكه. إنه الحالم بالمستقبل الآتي بالحرية والعدل. إن مأساة الحلاج والتي تم عرضها في ظروف سياسية قاسية (1967) لهى أبلغ تعبير عن إدراك المسؤول الثقافي آنذاك لضرورة البوح والدفء الحميم ولطرح الأسئلة، فصلاح عبد الصبور لم يكن مناضلاً سياسياً ولم يكن بوقاً من أبواق الدعاية السياسية ولم يكن باحثاً عن الشهرة والمناصب والمال. صلاح عبد الصبور كان حقاً هو التجسيد الحي لمأساة المسافة بين القدرة والفكرة. 

كان هو الحالة المشتعلة الراغبة في تحسين وجه الحياة والبشر. ولذلك كان رحيله في أغسطس الحار عام 1981 بقلب متعب من كد البحث عن الحب والعدل والجمال. تحية لروحه الطاهرة في ذكراه. إبداعه وحياته درس يجب تأمله ومعاودة سرده حفاظاً على إيقاف العذاب، الذي هو المسافة بين دور المثقف المنتمي للمؤسسة الوطنية الرسمية، وبين دور المثقف الحر. واستعادة لمعنى الشعر المصري الحديث، وشحذاً لقدرة المسرح المصري على عودته بيتاً للحق والخير والجمال.  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز