عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
ندوة العقاد.. وأيام التواصل عن بعد

ندوة العقاد.. وأيام التواصل عن بعد

في ظل تنامي العالم الافتراضي، وتنوع وسائل التواصل الاجتماعي وتكاثرها، وظهور أمهات الكتب على مواقع المكتبات، وتعدد مواقع المواد المسموعة المرئية وإمكانية الحوار الجماعي على مجموعات الشبكة الدولية للمعلومات. 



لاحظت قلة تجمعات المثقفين، وندرة الصالونات الثقافية والتي كانت تنتشر في العاصمة وعدد من حواضر المدن المصرية. 

وقد أدى انتشار كوفيد 19 ومتحوراته المختلفة، إلى تقلص جلسات تلك الصالونات الثقافية القليلة، بل وإلى ندرة التجمعات الثقافية الحية التي تعتمد على الاتصال الإنساني رفيع المستوى. 

إلا أن ظاهرة الاتصال الحي المباشر في تلك الصالونات والندوات المنتظمة قد شهدت هذا التراجع قبل قدوم كوفيد 19، والذي تقاومه البشرية لأنه يتحدى حرية التجمع الإنساني بالأساس. 

تذكرت تلك التجمعات الممتازة والتي تجتمع في محبة الإبداع والثقافة، متذكراً أهميتها في صنع التواصل بين مختلف التخصصات وما ينتج عن ذلك من تبادل في الخبرات يؤدي إلى التواصل المعرفي بين أهل العلوم والفنون والثقافة. 

بينما أطالع كتاباً نادراً، وهو من تأليف عبير عامر العقاد، عنوانه "قراءة بين السطور لحياة العقاد"، وهو الكتاب الذي أصدره الأديب العربي أحمد محمد باديب، على نفقته الخاصة، وقام بكتابة مقدمة بسيطة وعميقة للغاية، عن الخط الرفيع الفاصل بين حياة العظماء، وأحقية نشرها نشراً عاماً، وبين الإبقاء على الخصوصية الشخصية لهم. والكتاب الصادر عن دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع في القاهرة، عام 2013، إنه كتاب يجدد حيوية إعادة قراءة صاحب العبقريات بالنظر إلى مناح عدة من حياته الخاصة. 

ولعل أبرز ما في تلك الحياة الخاصة ندوته الشهيرة، وتفاصيل هامة ونادرة منها، ومن سلوك الكاتب الكبير الراحل. 

تقترب المسافات بين البشر عبر الثقافة، ويبقى وفاء الأديب أحمد باديب للعقاد، وذكراه وذكريات الندوة التي كان يحضرها وهو في بداية الصبا، وتعلق العقاد الأبوي به. 

ذكريات الاقتراب الإنساني الثري ومصادقة العباقرة من العقاد وجيله، تؤكد كما يرى الأديب أحمد باديب أن الالتقاء والتجمع البشري مع المبدعين والعباقرة فرص نادرة للفهم والإدراك وللإئتناس وكم أغبطه أنه ينتمي لهؤلاء الذين عاشوا في حياة العقاد. 

وفي الكتاب يرد أنه في ساعات قليلة محددة من يوم الجمعة، استجاب العقاد الذي كان حريصا جدا على وقته لقبول زيارة الأصدقاء والمحبين. 

سميت هذه الساعات باسم ندوة العقاد، والتي كان يؤمها من يمثلون كل بلد عربي، وكل مجتمع إسلامي، وكان لا يخلو أن يكون فيها زائر من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. 

وفيهم الشهير والمغمور، وفيهم من كل أنماط الإنسانية، ممثلون حتى فيهم بعض من صغار الطلاب في الجامعات، ثم ومع ازدياد الحضور عددا، وازدياد أعداد التلاميذ في جامعة العقاد، نقل العقاد ندوته في حديقة الحيوان بالجيزة. 

وعلى سبيل الاستمتاع باللطف الراقي كان العقاد يعرف نفسه بينهم بالزرافة، وقد كان رحمه الله من طوال القامة هيئة ومعنى وقيمة. 

ثم تندهش للتلاميذ، وأكرم بهم من تلاميذ، صاروا فيما بعد منارات في الفنون والآداب، فكان عبدالرحمن صدقى "البنجوين أو البطريق، وصلاح طاهر الدب، ومحمد حسن الشجاعي السيد قشطة، وأحمد علام الطاووس، وعلي أدهم الضبع”. 

وما ألطف أن يتسامر الكبار ويتمتعون المتعة الصافية، ويتحاورون مع العقاد، ثم انتقلت الندوة إلى مقهى بشارع عدلي، كان محله مكان جروبي الشهير.

وقد كان النقاش ثرياً وحقيقياً، ذلك أن العقاد كما كسب منها المحب الصديق، صنع منها لجرأته وحدته أحياناً مع من لا ينسجم معه أو يفهم كلماته، العديد من الأعداء.

إنها الندوة التي بدأت في بيته بمصر الجديدة سنة 1935، في الحجرة الأولى التي كانت تقع في يمين الداخل. وعلى أريكة كان يستقبلهم وأمامه وإلى يمينه ويساره يجلسون أو يقفون. 

تحولت تلك الندوة إلى تجمع كبير احتاج إلى الأماكن العامة كان العقاد منارة كبرى تضيئ القاهرة، وتجذب كل المحبين والمتذوقين.

ندرة من أهل الثقافة والفن، ومحبيه هم من لا يزالون على ذلك الفهم لضرورة الاجتماع الإنساني البشري.

إنه ذلك المزيج الساحر من البهجة والرقي، متعة الحوار الثقافي والتواصل الفكري.

إنها تلك الندوات الثقافية والفنية التي علمت أجيالاً عديدة، وساهمت في نشر الكثير من الأفكار المهمة وألهمت المبدعين العديد من الإبداعات الرائعة، وقدمت الفرصة لاكتشاف المواهب التي صارت نجوماً لامعة في مجالات الأدب والفكر والفن.

ما أحوجنا للحفاظ عليها، خاصة لمقاومة تلك المكاتب التي تقدم ما يسمى بالدورات التدريبة (الورش) في مجالات الفنون والآداب، وهى في معظمها يديرها غير المختصين، الذين يستهدفون الربح المالي.

بالتأكيد لا يمكن التعميم، إذ توجد قامات تقدم المعرفة الحقيقية في مدارسهم الخاصة القائمة على عدد من الأعلام في مصر. إلا أن الظاهرة العامة هي ممارسة الهواة، وقليلي الخبرة لتلك الأدوار المهمة والتي يتوق لها الشباب المهتم بالثقافة والفنون. العقاد لم يكن يستهدف الربح والعقاد كان يعيش كريماً من عمله ككاتب ومفكر حر.

ولم يجعل ندوته، والتي كانت مدرسة حقيقية إلا حديقة للعطاء والتجمع الفكري بلا مقابل مادي.

أما ما نتج عنها من عباقرة في كافة المجالات، فهو يمثل ثروة قومية كبرى في محبة الإئتناس والأنس البشري وفي محبة التجمع الثقافي بلا مصالح، وفي محبة التواصل الإنساني يبقى العقاد وندوته نموذج رائع، يجب الاهتداء به في حياتنا الثقافية والفنية فكم من إنسانية وثقافة ونور ورقي في التجمع البشري على وجه العموم، وفي التجمع الثقافي والفكري والأدبي والفني على وجه التخصيص.

صاحب العبقريات تحية لروحك الطاهرة، وإبداعاتك الباقية لأجيال قادمة.

صاحب العبقريات، عبقري الكتابة وعبقري المحبة، أستاذ الأجيال عباس محمود العقاد، أسلوب حياة يستحق التأمل والاستعادة في أيامنا المعاصرة. 

تلك الأيام التي يتكاثر فيها بقوة الواقع الافتراضي وإمكانات التواصل عن بعد.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز