عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
"الترابي" و"الرشيد" وقوانين السودان

الغربة الثانية 39

"الترابي" و"الرشيد" وقوانين السودان

لم يكن منزل قاضي القضاة، خلف الله الرشيد، يبعد كثيرًا عن مبنى النائب العام. مشينا معًا أنا والدكتور حسن الترابي إلى منزل القاضي الفاضل، حكى لي في الطريق أن لقب قاضي القضاة استحدث في عصر خلافة الرشيد، ليتولى- نيابة عن الخليفة- الإشراف على قضاة الدولة وسيرتهم الوظيفية. وفي عصره تولى هذا المنصب القاضي أبو يوسف الأنصاري، تلميذ الإمام أبي حنيفة، وقد منحه كامل ثقته، فكان تعيين جميع قضاة الدولة راجعًا إليه، واستمر المنصب في تطور مستمر طيلة العهد العباسي، وكان خير مثال على وحدة ومركزية الإدارة القضائية العربية، فجميع قضاة الدولة العربية في المشرق والمغرب يرتبطون بشكل أو آخر بقاضي القضاة في بغداد.      



استقبلنا قاضي القضاة بنفسه على مدخل منزله ببذلة كحلية اللون، يطل من جيبها منديل أزرق منقط بالأبيض، كلون قميصه، فلقد عُرف خلف الله الرشيد بالذوق العالي في اختيار القمصان والكرافتات، انعكس هذا الذوق الجميل أيضًا على منزله. في صالون منزله الغالب عليه اللون السماوي، تنافست الوسائد بانسجام ألوانها في تناغم مُتَّكَأَ أراح ظهورنا. 

   

الشاي السوداني بالقرفة مع بسكويت النشادر والمِنين كانوا البداية، كأول مظاهر للضيافة، حدثني عن حرصه واهتمامه بمشروع طباعة "قوانين السودان" فهو مشروعه الأخير، فالرجل أحد رموز السودان القانونية، وفي طريقه للتقاعد. وعدته ببذل الجهد ووضع خبرة السنين لكي تخرج القوانين بأبهى وأفضل صورة، تليق بالجهد الذي بذله الرجل الذي تمتع بتجربة وطنية ثرَّية وعقل راجح. تميز بدماثة الخلق وصفاء النفس وتواضع العلماء وأدب الكرماء وحب الخير للناس والوطنية.  

   

انجذبت لرصانة خلف الله الرشيد، التي تخفي تحت جديتها حنكة وخبرة ووقارًا، وخفة ظل وحبًا للدعابة.

   

حدثني عن زملائه في الدراسة دفع الله الرضي، وحسن الترابي، وأحمد أمين صالح، وميرغني النصري، وكمال الدين عباس، والصديق المشترك منصور خالد.

   

وقار القاضي لم يمنعه من تذوق أغاني حقيبة الفن أو الاستماع في هدوء إلى أحمد المصطفى، وعبد العزيز محمد داود، وعبد الكريم الكابلي. وقار القضاء كذلك لم يمنعه من التعصب للفنان عثمان حسين من بلدة (مقاشي) التي أنجبت خلف الله الرشيد، والصحفي الراحل الشهيد محمد طه محمد أحمد، الذي يمُتّ بصلة القرابة إلى خلف الله الرشيد. 

   

خلف الله الرشيد محبّ للأدب والقانون، وهو القارئ المتمعِّن. هو من الإسلاميين المعتدلين الذين مزجوا في حكمة بين قيم الإسلام والحياة الحديثة، إلى جانب حبّ الفن الرصين وإيقاع (التم تم) الشعبي، كان من هوايات خلف الله الرشيد كرة التنس، والسباحة، وتشجيع (الهلال).

   

وقال: لقد ورث السودان نظامًا قضائيًا متميزًا بشقيه المدني والشرعي، منذ مطلع القرن العشرين، فعند انتهاء حكم المهدية آلت الدولة للحكم الثنائي المصري الإنجليزي، وأسس الإنجليز نظامًا قضائيًا مدنيًا وجنائيًا محكمًا، سادت فيه العدالة الشكلية والموضوعية على أساس القانون الوضعي. 

   

وأسس المصريون نظام الأحوال الشخصية على هدي الشريعة الإسلامية، كل نظام يعمل في سياق منفصل عن الآخر.

   

لقد كان خلف الله الرشيد ثمرة من ثمرات الذين سبقوه، فقد نشأ في مناخ عدلي صحيح، لا يجد الحصيف والظلم والميل إليه سبيلًا، وقد اتسم أداؤه كغيره من أولئك الرجال بالدقة والتميز فقهًا وعلمًا، ولذلك عندما اختير رئيسًا للقضاء لم يكن ذلك اعتباطًا، بل لما توفر فيه من صفات، وأثبتت التجربة أن خلف الله مثاّل ونموذج للقاضي الورع الصالح في أعظم ممارسة امتدت لسنوات. 

   

لم تتوقف ضيافة القاضي الكريم عند أكواب الشاي السوداني بالحليب والقرفة، فقد أصر على أن نتناول طعام الغداء معًا، وامتدت طاولة عليها كل ما تشتهي النفس من الأكلات السودانية، بعضها قريب من الطعام المصري، والآخر شرح لي الترابي مكوناته: "المسلمية" طبق شهي من الكبد والبهارات والطحين والتمر، و"المفروكة" من اللحم المقلي المنكه بأشهر البهارات والتوابل السودانية، مع الفلفل الأسود والزيت والثوم والبصل والسبانخ، "أم تشكو" و"العفوص" نوع من أنواع السلطات السودانية، وأنواع من العصائد أو الحساء والشوربة مثل "الميريس" من البامية المجففة والبصل مع مزج دهن الغنم، وحساء "الشارموت" من اللحم المجفف مع البهارات، أما صنف الحلو فهو "سمرونا" أشبه بالبسبوسة، و"مديدة الحلبة" والأرز باللبن. 

   

أنواع وأنواع من المأكولات السودانية- لا مجال هنا لعرضها وشرح مكوناتها- زخمت بها مائدة قاضي القضاة، لذيذة ولكنها مغلفة بكل ما هو "حار"، فكان لا بد أن أسأل مضيفي عن سر استخدام الفلفل الحار في كل المأكولات السودانية. وجاءت إجابة الرشيد طريفة، فليس من قبيل المصادفة تقديم أطباق لاذعة مع المناخ الحار، فقبل استخدام التبريد الكهربائي، كانت الحرارة تتسبب بفساد الطعام، والعديد من التوابل المستخدمة التي تعطي الطعام لذعته لها دور في حمايته من نمو البكتيريا والفطريات بنسبة 75%، بالإضافة لدورها في تقوية جهاز المناعة وخفض خطر الإصابة بالنوبات القلبية، والانسداد الرئوي والسكتة الدماغية. وأشياء أخرى كثيرة لو اعتقدت فيها وآمنت بها لعُدت لمائدة الطعام، لكنني فضلت الانصراف بعد تقديم فرائض الشكر لواحد من أهم الشخصيات المؤثرة في تاريخ السودان الحديث. 

   

خرجت باحثًا عن نهر النيل لعله يطفئ حرارة الجسم، ويشفي قمة رأسي وهي على وشك الانفجار، لكنني توجهت لفندقي استعدادًا للسفر والعودة للندن لأبدأ طباعة قوانين السودان.

   

وأكمل رحلتي في غربتي الثانية..

   

عدت للندن ولمكتبي الذي وضعت عليه جومانة Jumana سكرتيرتي مئات الرسائل وقائمة طويلة من الاتصالات التليفونية، لفت نظري منها أولهما من مدير العلاقات العامة بشركة "سكر كنانة"Kenana Sugar Company بالسودان، الذي حضر خصيصًا للقائي ومناقشة تنفيذ خطة دعائية للشركة التي تمتلك 73 ألف هكتار لزراعة قصب السكر على الضفة الشرقية من النيل الأبيض، برأس مال عربي مشترك، معظمه من الكويت والإمارات، ونسبة لا تتعدى 5.59% للسودان. 

   

والرسالة الأخرى من الصديق اللبناني نبيل كازان، الخبير الإعلاني، يطلب تحديد موعد للقاء الإعلامي اللبناني فؤاد مطر، الذي أسس شركة للنشر تحمل اسم هاي لايت للنشر HIGHLIGHT، وهو بصدد إصدار مجلة سياسية تحمل اسم "التضامن"، وشعارها "مجلة العرب من المحيط للخليج"، ويريد الاستعانة بي في إصدارها. 

   

"بركاتك.. مولانا خلف الله الرشيد.. كما يطلق عليه السودانيون".

   

نطقت بها بالعربية، وتعجبت السكرتيرة الإنجليزية لردّة فعلى، التي لم تفهم منها شيئًا، وقد جاء أول الخير بعد عودتي من السودان ولقاء قاضي القضاة، بالتعاقد على تصميم شعار تَصَدَّر كل المواد الدعائية والمطبوعات لشركة كنانة ومصنعها، الذي سُمي نسبة لمدينة كنانة وسكانها من قبيلة كنانة، لتكون جاهزة في استقبال الرئيس النميري وضيوفه من كل أنحاء العالم عند افتتاحه للمشروع، مطلع عام 1980. 

   

وجاء الخير التالي مع الرسالة الثانية، التي حملتها جمانة، وكُللت بلقاء فؤاد مطر، والاتفاق على التعاون لإصدار مجلته.

   

ونتابع معًا ونترقب صدور العدد الأول من "التضامن".

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز