عاجل
الجمعة 27 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
We
البنك الاهلي
الـفـرح فـى زمـن الـكــرب

الـفـرح فـى زمـن الـكــرب

بقلم : منير عامر



 

وسط الضجيج الصاخب الذى لا يترك لأحد قدرة على التوازن، وجدت فى الليالى الثقافية ما يعيد زراعة الثقة فى أن غمامات الضباب لابد أن تنكسر، وامتلكت ساعات أعطتنى زادا من صلابة أتحدى بها فوران الغضب من الغموض الذى يجعلنا نحن - عموم المصريين - فى حالة تصارع دون العثور على بوصلة قادرة على أن ترشدنا إلى الكنز المفقود فى حياتنا وهو التوافق بين المختلفين على حد أدنى من النقاط ثم نواصل التفاوض فيما بيننا على الوصول إلى الاتفاق الذى يعبر بنا من الجسر المهتز بدوامات عدم الثقة المتبادلة
 
كانت البداية هى دعوة من الصديق د.صابر عرب وزير الثقافة لاحتفال يحمل جزءا من طبيعة د.صابر ألا وهو «التوثيق» وكان الذهاب إلى معرض بمسرح الهناجر حيث شاهدنا الصفحات الأساسية من صحف ومجلات فترة حرب أكتوبر لنرى إبداعات حجازى الرسام الذى لانظير له وهى تتجاور مع لوحات مصطفى حسين، ثم تأتى لقطات الفوتجرافيا لتحمل لنا مشاهد المنتصرين، والمخضرمون مثلى يعلمون أن أجيالا متعددة نشأت ولم تعرف لذة الشجن عند رفع العلم على الضفة الأخرى من قناة السويس، وكان تكريم بعض من المقاتلين الذين صنعوا انتصارنا فى تلك الحرب؛ هذا النصر الذى مازال أنشودة حياتنا كلما أردنا أن نوقظ الضمير الوطنى من سباته أو توتره، ثم جاء الغناء المصرى المعبر عن تلك الأيام وكان المؤدون هم الفريق الذى دربه وأشرف على تنشئته الفنية الرائع خالد جلال.
 
وفى اليوم التالى قررت ألا أتابع صراع الليل اليومى فى القنوات الفضائية، لعلى أهرب لساعات من عذابات الإعلانات التى تسرق لحظات العمر وتتوسطها قليل من المناقشات التى تزعق فينا بتعرية كل جراح المجتمع بهدف التعريض ببعض من قادته، دون أن نسمع أو نرى محاولة للوصول إلى طريق نخرج به من كل مشكلة يعانى منها أهل المحروسة، لذلك قررت قضاء ذلك المساء مع مسرحية «أين أشباحى؟» التى يقدمها فريق فنى يندر أن يوجد فريق مثله فى أنحاء عالمنا العربى ويمكن أن يطاول فرق الغرب الكبيرة ألا وهو الفريق الذى دربه خالد جلال من خلال مركز الإبداع، والحكاية التى يؤديها الفريق تبدأ من استعراض واقعى لعالم نظن أنه موجود ولم يثبت لنا وهو عالم الأشباح، ومن خلال ثلاثة شباب يحرسون قصرا مهجورا تبدأ الأشباح فى الظهور لتؤدى رقصات تمر بنا على رقصات القرن العشرين كاملة، ويذهلك طبعا تحرك وانسجام المجموع ودقة الخطوات التى تؤكد أن هذا الفريق تم تدريبه لا على الغناء أو التمثيل ولكن ليصبح لدينا هذا الفنان الشامل الذى تحلم كل بلدان العالم امتلاك موهوبين فيه.
 
وفى اليوم التالى قررت أن أذهب إلى قصر المانسترلى بعد أن تم ترميمه وعاد إليه المركز الموسيقى العالمى الذى يستضيف كل شهر عازف موسيقى عالميا وفى الغالب يكون الجمهور من المقيمين من الأجانب بمصر المحروسة، من كبار رجال السفارات الأجنبية أو الزوار، وقليل من المصريين عشاق الموسيقى الكلاسيكية، وطبعا يعتمد صندوق التنمية الثقافية فى دعوة العازفين الكبار على التبادل الثقافى، أى أن التكلفة لمثل تلك الحفلات الموسيقية قليلة وتكاد أن تكون تافهة بالنسبة لعائدها المعنوى فى التبادل الثقافى بين الدول، وكان العازف فرنسى التعليم وإيرانى الجذور اسمه نيما ساركتشيك وهو من نال جوائز عالمية فى العزف على ذلك الوحش الأسود الذى توجد به مستطيلات سواء وبيضاء وأعنى به البيانو، ويمكن أن ترى العازف وهو يتحول من جسد إلى روح تقوم بترويض هذا الوحش لينطق بخيال المؤلف الموسيقى ويضيف إليه من قدرة على إعادة تدريب الروح على أن تعيد النظر إلى العالم بنقاء، فهذا ما تفعله الفنون الرفيعة، وقد قدم مقطوعات من فرانز ليست وشوبرت وديبوسى، ولن أزيد فى القول سوى أنى تمنيت أن يعود لهذا المركز قدراته على أن يقدم الأوائل المصريين من العازفين، وأعتقد أن تلك هى الخطوة القادمة التى يرنو إليها العبقرى الموهوب رمزى المشرف الفنى على تلك الحفلات ومعه الأستاذة الكبيرة نفين الكيلانى.. وما إن أخرج من قصر المانسترلى حتى أتوقف عند تمثال أم كلثوم الذى يتصدر متحفها فى هذا القصر، وأبتسم فى خيالى لسيد النحت المصرى المعاصر آدم حنين الذى فرح فرحة طفل وأنا أعلق له على التمثال المصنوع من إبداعه «هاهى أم كلثوم تغنى بذيل فستانها المنحوت يافنان».
 
وأواصل السهر من بعد ذلك مع تفاوض غريب يبنى جسراً من مودة بين القاهرة وميونخ، حيث أسس هناك شاب مصرى هو عادل شلبى أول أوركسترا من نوعه للوتريات والإيقاع، ومن يعرفون عادل يعلمون عنه عشقه المتناهى لآلات الإيقاع، فكيف لتلك الآلات أن تعزف موسيقى كلاسيكية رصينة؟ وقد استطاع عادل الذى تخرج فى كونسرفتوار القاهرة أن يصل إلى مرتبة الأستاذية فى أكاديمات أوروبا ويعيش فى ميونخ ويؤسس تلك الفرقة المبدعة، وطبعا استعان أثناء عرضه فى تلك الليلة بموهبة إيناس عبدالدايم سيدة الفلوت لا فى مصر وحدها، بل تتصارع فرق أوركسترالية عالمية للحصول على شرف انضمامها، ولكنها تؤثر البقاء فى القاهرة، وكان هناك العازف الذى يلعب بالكمان ويجعلها تنطق بأسرار جمال غير مسبوقة.. ولم تمر سوى أيام قليلة حتى كنت أشهد فى دار الأوبرا حفلا لقصائد من أشعار المتصوف التركى الشهير يونس أمرة وقد تحولت إلى غناء أوبرالى خلاب يؤديه فنانون مصريون وأتراك مع أوركسترا القاهرة السمفونى، لأرتوى بأصوات مصرية وتركية تعرف موسيقى اكتشاف الإيمان فى الوجدان بعيدا عن جفاف ما يغرقنا به البعض من حكاوى نكاح الموتى أو اغتصاب الصغيرات فى سن التاسعة بحكم أن البنت جسدها قد فار كأنه إناء حيوانى من لذة كريهة.. ولا تمر سوى ساعات لأشاهد افتتاح مهرجان الموسيقى العربية حيث تألقت قدرات إيناس عبدالدايم ورتيبة الحفنى فى صناعة احتفال مهيب بموسيقار يمكن أن نفاخر به العالم ألا وهو رياض السنباطى، حيث تمضى ساعتان من عزف لموسيقاه التى قدم من خلالها النجوم سواء أكانت ليلى مراد أو عبدالحليم حافظ أو وردة أو نجاة الصغيرة، وطبعا نعلم جميعا أن أم كلثوم هى من استأثرت بمعظم ألحانه..
ولايمكن نسيان مجهود عدد من الكبار وراء هذا الحفل، أولهم سيد الذاكرة الفنية للنصف الثانى من القرن العشرين الإعلامى وجدى الحكيم، وثانيهم هو المايسترو عبدالحميد عبدالغفار الذى قاد الأوركسترا بطاقة تحولت فيه الموسيقى الشرقية إلى نسيج كونى يمكن مقارنته بإبداعات موسيقى الغرب الرصينة.
 
وهل يمكن أن أنهى سطورى دون شكر الرائعة حقا وصدقا مى فاروق التى تمثل موهبتها كنزا غير مسبوق فى الغناء، وإن كان البعض قد ظن أنها أسيرة الغناء لأم كلثوم فقد فاجأت الجمهور بغناء النهر الخالد لمحمد عبدالوهاب، ثم قصيدة رباعيات الخيام، وهى قصيدة عصية على الغناء ولم تروضها إلا أم كلثوم، ثم ها هى مى فاروق تعيد ترويضها بإحساس شديد الخصوصية والفهم.
 
ويا أيتها الكروب التى تريد سرقة الضوء من أيامنا، عفوا ليل القاهرة يملك أكثر من نجم قادر على الهداية إلى نقاط توافق عبر إبداعات الفنون الرفيعة.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز