عاجل
الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
فكرة مصر "2"

فكرة مصر "2"

بقلم : طارق رضوان

بعد غياب طويل، عادت فكرة مصر فى العصر الحديث، بدأت عندما جاء نابليون قائدًا لحملته الفرنسية الشهيرة. كان ذلك فى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وهو عصر عادت فيه الأمَّة المصرية لسابق عهدها الحضارى بعد سنوات طويلة كانت أحط وأحقر سنوات عمرها تحت إمارة الدولة العثمانية. بدأت الأمَّة فى استعادة ذاكرتها الحضارية وعادت ثقتها فى نفسها وبدأت تستعيد فكرتها. فكرة مصر.



بدفعة قوية من محمد على. صَحَتْ مصر على الحياة الحديثة التى كان الفرنسيون فى حملة بونابرت قد حملوا إليها بشائرها الأولى. عندها بدأت مصر تعى نفسها ومواردها وثروتها ووضعت الأسُس لحكومة وطنية فى بلد ظل حتى ذلك الحين نهبًا لسادة أغراب.

فافتُتحت المدارس وبُنيت المستشفيات  وانتشرت الصحف وشُقت الترع وبُنيت السدود وتَوجهت البعثات الطلابية إلى فرنسا وتَعلمت المرأة فى المدارس وأقصى المماليكُ والانكشاريون الأتراكَ عن الحياة السياسية. ودبت على الأرض المصرية أقدام جيش جديد جنوده من الفلاحين. وسرعان ما أصبح هذا الجيش الذى أحسن تدريبه على أيدى أجانب كان الفرنسيون يحتلون بينهم المرتبة الأولى مدربًا لحد استطاع معه أن يُلحق الهزيمة بالوهّابيين فى الجزيرة العربية، وأن يُشكّل مصدر خطر وقلق شديدين للسُّلطان العثمانى. وأخذ محمد على وابنه إبراهيم كمغامرين عبقريين يحلُمان بالاستقلال عن الباب العالى؛ بل ويفكران أن يقطعا لنفسيهما مملكة خاصة بهما تحت اسم مصر. جاء ذلك بعد قرون كان من يدافع عن مصر جنود مرتزقة من المماليك. ومع أن مصر كانت قد انطوت لوقت طال أكثر من اللازم على نفسها فإن ذلك لم يجعلها تفلت من قَدَرها بعد ما يقرب من ثلاثين عامًا من موت باعث نهضتها تسقط فريسة الأطماع التى لحقت بها.

وفى الوقت نفسه بسبب أهميتها الاستراتيجية التى ازدادت لدرجة كبيرة بعد حفر قناة السويس وافتتاحها للملاحة فى 17نوفمبر عام 1869. كان مشروع محمد على هو بناء دولة عصرية فى مصر والشام. وقد ضرب هذا المشروع بواسطة تحالف بين القوى الأوروبية الكبرى المعارضة لقيام دولة عربية قادرة تحكم فى مصر والشام أو تجدد شباب الخلافة فى استانبول. وهكذا جرى تحطيم أسطول محمد على وتمزيق جيشه بقوة السلاح. مما اضطره إلى توقيع معاهدة لندن 1840.

 لكن فى تلك الفترة المهمة بدأ العمل الذى نهض به محمد على يؤتى ثماره. فطوال عهده وامتدادًا لحفيده إسماعيل كانت يقظة مصر تزداد واكتسب المصريون كلمة «وطن» بنفس معناها عند أوروبا المتقدمة. وأصبحت مع التطوُّر الحضارى الحادث تستوعب من جديد كلمة «أمَّة». اشتعلت الوطنية المصرية بسبب التدخل الأجنبى الذى خَلق ضميرًا  وطنيّا  يزداد ثباتًا مع الأيام لطرده من البلاد. وظهرت طبقة اجتماعية جديدة أخذت بالتدريج وفى هدوء تزحزح الطبقة الأرستقراطية القائمة على الأتراك والشراكسة. أخذت هذه الطبقة التى تضم المحامين والأطباء والمهندسين وشباب الضباط والكُتّاب والصحفيين والمُدرسين والمثقفين من كل لون تتطلع لأن تلعب دورها فى الحياة السياسية. وتضاعفت قوة الحركة الليبرالية والدستورية بالحركة الوطنية التى اندمجت بها لتحقق فيها ذاتها. وقتها لم تكن مصر تحس أنها عربية.

وكان شعورها بعروبتها بالغ الضآلة لدرجة أن عديدًا من أبنائها ظلوا منذ بداية عصرها الحديث حتى نهاية الحرب العالمية الأولى يظنون أنهم قد وجدوا فى ماضيها البعيد أسُسًا لعظمتها ونهضتها المقبلتين. ألمْ تكن مصر قبل أن يفتحها عمرو بن العاص وقبل أن تعتنق الإسلام قاعدة لحضارة باهرة؟ وقد أعطى اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون سنة 1920 الفرصة لهذا الاتجاه كى يُعبر عن نفسه بحُرية كاملة فجعل بعض الكُتّاب من أنفسهم روّادًا يدفعون هذا الاتجاه كى يُعبر عن نفسه بحُرية كاملة.

وقد خَلق أزميل المَثال محمود مختار هذه الحركة الفكرية عندما ثبَّت فى كتلة من الجرانيت نهضة مصر على شكل فتاة فلاحة شابة ترتدى ملابس فرعونية وينهض عند قدميها أبو الهول وهو مقوس قليلًا على قدميه الأماميتين. وكان على مصر أن تسأل نفسها فى ذلك الوقت: هل تظل مسلمة أمْ يحسن بها أن تعود فرعونية كما كانت؟ ولشهور طوال ظل هذا التساؤل موضوع نقاش جاد فى الصحف، ومع ذلك فقد كان ينبغى لكى تسود الفرعونية مصر أن يكون وادى النيل أقل تعلقًا وارتباطا بالإسلام وأن يتهيأ له حكم شبيه بديكتاتورية تركيا الحديثة.

فى تلك الفترة المهمة التى كانت نواة لخَلق الليبرالية المتعددة مع بداية القرن العشرين استطاعت مصر أن توجد لنفسها قدمًا وسط التقدم الحضارى الأوروبى. وأصبحت كجزيرة منعزلة وسط محيطها الغارق تمامًا فى الظلام وفى الصراعات القبلية وتبحث عن نفسها لتكوين دول بالمعنى الحديث. وعندما بدأت الثورة العربية فى الاشتعال التى ساهم فيها المستعمر البريطانى بقيادة لورانس العرب وجروتد بل «صانعة الملوك» لخَلق مملكات عربية. كان لمصر دستور وبرلمان وأحزاب، رُغم ضعفها فى ذلك الوقت؛ فإنها كانت كيانًا استطاع شباب الأمَّة أن يتخذوا منه طريقًا لإقامة حياة حزبية قوية. ظهر فى مصر المسرح والسينما وتطوَّرت الموسيقى وازدهر الشِّعر وبدأت الرواية المصرية فى الظهور وتطوَّر الفن التشكيلى والمعمارى اللذان أخذا الطابع المصرى بعيدًا عن التأثر بالإبداع الأوروبى، وظهر كثير من الصحف وعرفت مصر لأول مرّة مطبوعة «المجلة». وأصبح لمصر قوتها الناعمة القوية المنفردة. وهى القوة الحقيقية فى بناء الإنسان المصرى الحديث. فقد حَمَل كل المبدعين على أكتافهم حِمْل بناء الشخصية المصرية.

بناء ساهم فيه بجانب المبدعين طبقة السياسيين الذين أشعلوا روح الوطنية فى نفوس الشعب. كان بداية النصف الأول من القرن العشرين ميلادًا جديدًا للشخصية المصرية. ظهرت واضحة فى نهاية العقد الثانى بثورة 1919 التى أثبتت للعالم المتقدم والمستعمر أن تلك الدولة أصبح لديها رجال يستطيعون الدفاع عنها والتحدُّث باسمها فى المحافل الدولية. الحركة الوطنية تلك استطاعت أن تحافظ على مصريتها وتثبّت أقدام كل ما هو مصرى وتدافع عنه من الاندثار. وحدث مزج أقرب ما يكون بانصهار تاريخ مصر القديم كله لتصبح مصر فرعونية عربية إسلامية متوسطية فى مزج مبهر ولكل تيار مدافعون عنه ولديهم حججهم لإثباتها مما خَلق حالة من الازدهار الفكرى نتج عنه أجيال متعاقبة من رواد القوة الناعمة التى انتشرت فى ربوع مصر.

 واستمر وجودها حتى نهاية القرن العشرين وساهمت بشكل كبير وواضح فى مساندة ثورة 23يوليو 1952 التى أخرجت المستعمر البريطانى بعد اثنين وسبعين عامًا. واستطاعت أن تدفع تلك الثورة فى منتصف القرن أن تصل للشعب بسهولة ويُسر وهدوء لتعلن مصر لأول مرّة فى تاريخها جمهوريتها الأولى.

وهكذا أصبحت مصر منذ بداية القرن العشرين أرضَ التنوير ومنارة الثقافة والفكر والإبداع. أصبحت مصر دولة كوزموبلتانية تستوعب كل الأعراق والأديان والأجناس ومحافظة على مصريتها مما جعلها هدفًا لقوى الظلام المجاورة لتدخل نفقًا مظلمًا استمر حتى ثورة يونيو 2013. فبينما كانت مصر تبنى نهضتها الحديثة كان هناك من يعمل فى الخفاء بمساندة قوى غربية لوضع عصا فى العجلة توقف التطور الضخم والرهيب والسريع. كان هناك من يَصنع جماعة الإخوان الإرهابية.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز