عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
تدمير الدول "2"

تدمير الدول "2"

بقلم : طارق رضوان

منذ قديم الأزل، تتعاقب الإمبرطوريات التى تحكم الكوكب، ولكل إمبراطورية سمات ومصالح وأسلوب فى السيطرة. قديمًا كانت بالسلاح وبالجنود، ومع تطور الحضارات أصبحت السيطرة الإمبراطورية بسلاح العقل وسيطرة الفكر، وفى كل من الحالتين -السلاح والفكر- يتم التدمير، تدمير دول صغيرة لخدمة مصالح الإمبراطور الأهوج، تدمير يطول الأرض والبشر، تدمير حضارات وتدمير عقول، وتدمير هوية.



فى العصر الحديث، كانت بريطانيا هى الإمبراطورية التى أمسكت بزمام القرن التاسع عشر، وتنفرد بالساحة الكوكبية بعد أن فجرت الثورة الصناعية الأولى وقادتها لأبعد حد ممكن، وتحكمت فى شروط التجارة العالمية، فأصبح الجنيه الاسترلينى عملتها التاريخية هو عملة العصر وأساس العملات والمعاملات، وسيطرت على منافذ المحيطات والبحار ومسالكها ومضايقها بواسطة الأسطول البريطانى الرهيب الذى أصبح رمزًا لتواجد القوة فى أى مكان من العالم، ونشرت الإمبراطورية اللون الأحمر على الدنيا كلها كرمز للعلم البريطانى الشهير.

وفى ذروة قوتها العسكرية استاطعت أن تمزق دولًا وتنشئ دولاً جديدة من العدم، فى آسيا مزقت الهند أحد أهم مستعمراتها لثلاث دول الهند وباكستان وبنجلاديش، وأدخلت الصين فى أقذر حرب فى تاريحها وهى حرب الأفيون، وصنعت المملكة العربية السعودية والأردن والعراق وسوريا ووضعت حدودًا قلقة ما بينهم، وقبل أن تغيب شمسها وترحل، زرعت إسرائيل، وفى أفريقيا توغلت حتى جنوبها وفى الطريق استطاعت أن تسمى أكبربحيرة فى العالم باسم الملكة فيكتوريا ومزقت النيجر وخلقت منها نيجيريا وأدخلت جنوب أفريقيا لحروب إثنية وعرقية وطائفية امتدت لنهاية القرن العشرين، الإمبراطورية لم تتسيد عسكريا فقط، تتمتع بوسائل قوة عصرها، بل قامت بالتوازى ببناء حضارى وسياسى فريد من نوعه وقتها، فكان نموذج الديمقراطية البريطانية متمثلا فى مجلس العموم وفى الصحافة، فكانت جريدة «التايمز»  جريدة الإمبريالية والحرية رمزًا للحضارة البريطانية، كما تجلى نموذج الإمبراطورية فى مؤسسات العدل البريطانية، وازدهرت معه فنون العمارة والمسرح والشعر والقصة وحتى كتابة الرسائل البريدية، بلغ ذروة ازدهار الإمبراطورية فى العصر الفيكتورى «نسبة إلى الملكة فيكتوريا».

كل ذلك تزين بنمط من الحياة تطلع الآخرون فى العالم إليه وسعوا إلى تقليده أو استلهامه فى كل مجال من المجالات، ابتدأ من الكتابة مرورًا بالمسرح ونهاية بشاى الساعة الخامسة بعد الظهر، فقد خلقت الإمبراطورية نظامًا عالميًا فريدًا من نوعه أطلق عليه وقتها تفاخرًا واعتزازًا وصف عصر السلام البريطانى، وأصبح القرن التاسع عشر هو القرن البريطانى، كان النظام البريطانى هو القوة الغالبة التى أفرزتها الثورة الصناعية الأولى فى إطار عصر الرأسمالية التى وضع قواعدها آدم سميث عام 1776 فى تحقيقه الشهير فى طبيعة وأسباب ثروة الأمم، فكان كتابه الشهير ثورة الأمم،

وكانت وسائل ذلك العصر هى الفحم والحديد والبخار والسكك الحديدية، وأسلحته هى المدفع والدبابة والبارجة، وبعد الحرب العالمية الثانية تبدلت الأحوال وشاخت الإمبراطورية البريطانية من أعباء الحرب وتكاليفها، ومن أعباء التوسع الإمبراطورى الذى لم تغب عنه الشمس، غربت شمس بريطانيا، وفى وقت غروب شمسها كان هناك نور يسطع ويتوهج من خلف المحيط الأطلنطى، كانت الولايات المتحدة على أهبة الاستعداد، كانت تشرق غرب المحيط وتنشر خيوط نورها ونارها على العالم كله، وقبل أن يغيم الظلام على العالم بدأت الولايات المتحدة فى التحرك للخروج من عزلتها، فهى قلعة الثورة الصناعية الثانية، وهى الدولة التى آلت إليها مقاليد قيادة النظام العالمى الجديد الذى استحق أن يطلق عليه وصف عصر السلام الأمريكى، حتى أصبح القرن العشرين هو القرن الأمريكى، وكما فعلت بريطانيا قبلها، فعلت أمريكا بعدها، حيث برزت القوة العسكرية النووية الأمريكية بعد أن أعلنت عنه بقوة وبشراسة على أرض اليابان بقنبلتين على هيروشيما ونجازاكى، كأنها تقول للعالم أن القوة الكاسحة المفرطة قادمة بلا رحمة لتكون حارس الأمن العالمى بدلا من الأسطول البريطانى، وهى الأخرى بدورها قامت بتدمير ألمانيا بقيادة أيزنهاور ومزقت الاتحاد السوفيتى وشرق أوروبا وقسمته إلى دويلات تابعة وخاضعة، ودمرت العراق وأفغانستان وأدخلت إيران تحت حكم الملالى ومزقت السودان لدولتين ودمرت الصومال وسوريا وليبيا، وفى طريقها لتمزيق الاتحاد الأوروبى وإعادة تخطيط الشرق الأوسط، وأخذت القواعد الأمريكية المنتشرة فى كل القارات مكان وممتلكات ومستعمرات ومحميات التاج البريطانى، وحل الدولار محل الاسترلينى، وتراجعت المؤسسات الدستورية البريطانية أمام المؤسسات الدستورية الأمريكية الضخمة.

وفى حين بدت الأولى أقرب إلى متاحف الشمع، فإن المؤسسات الدستورية الأمريكية كانت تملك حيوية هائلة وفى المقدمة منها بالطبع الكونجرس بمجلسيه إلى جانب المحكمة العليا، وبرزت الصحافة الأمريكية لتكون سمة العصر الحديث، فبرزت جريدتى الوشنطون بوست ونيويورك تايمز وهما صوت الرأسمالية والحرية الأمريكية، وفى حين بقى للمسرح البريطانى بعض من مجده، فإن السينما الأمريكية أصبحت فن الزمان الجديد، وأصبحت هوليود قبلة عالم السينما كما أن الإعلام الأمريكى من صحافة وإذاعة وتليفزيون أصبح هو الذى يضع جدول الأولويات الموجبة للاهتمام على مستوى الرأى العام العالمى، وأصبح الهامبورجر فى النظام الأمريكى هو البديل الجديد لشاى الخامسة عصرًا فى النظام البريطانى ليكون سمة العصر الأمريكى الجديد، وأصبح النظام الأمريكى هو القوة الغالبة التى أفرزتها الثورة الصناعية الثانية فى إطار عصر الرأسمالية والنيوليبرالية، وكانت وسائله هى البترول والكهرباء وخطوط إنتاج السيارات والطائرات، وأسلحته هى حاملات الطائرات والصواريخ العابرة للقارات والقنابل النووية، ولأن الإمبراطورية الأمريكية تمتلك من الموارد ما يكفيها ومن العقول ما يغذيها امتد بقاؤها حتى القرن الواحد والعشرين، بل إن مجموعة الإمبراطورية التى استلمت إدارة البلاد فى نهاية القرن العشرين وضعوا خططا طويلة الأمد ليمتد عمر الإمبراطور الأمريكى لقرن آخر، وأطلقوا على القرن الواحد والعشرين بالقرن الأمريكى، ولكى تستمر الإمبراطورية فى البقاء وفى التسيد، كان عليها أن تقوم بترتب العالم من جديد، ترتيب حسب هواها ومصالحها،

وكما فعلت الإمبراطوريات القديمة فى تقسيم العالم ووضع خرائط جديدة للبلدان حسب مصالح الإمبراطور، وضع الإمبراطور الأمريكى خططًا أخرى لرسم الخرائط ونشر اللون الأزرق والأحمر على كل العالم وهما اللونان الغالبان فى العلم الأمريكى مما جعل أكبر شركتين فى العالم تغير من ألوانهما ليتسيد اللون الأزرق فى شركة بيبسى واللون الأحمر فى شركة كوكاكولا، وهما الشركتان الموجود انتجاهما فى كل بقعة من بقاع الأرض، الخطة التى وضعتها الولايات المتحدة فى إعادة رسم خرائط العالم تبعها تدمير دول بأكملها وصناعة دول جديدة وتقزيم وإضعاف دول قديمة لها أهمية استراتيجية فى محيطها ومخطط لها أن تلعب دورًا محدودًا ومحددًا لمصلحة الولايات المتحدة فقط، فقامت بصناعة الثورات من الداخل كما حدث فى منطقة الشرق الأوسط، وقامت بإشعال الحروب الممتدة لسنوات بلا منتصر وبلا خاسر وهى الحروب التى أطلق عليها أحد أهم مفكريهم الدكتور هنرى كيسنجر أنها حرب لا ننتظر منها منتصر ولا خاسر بل هى حرب ممتدة، من خلال تلك الحروب تنتعش صناعة السلاح وتجارتها ومن خلال تلك الحروب تتورط دول أخرى، ومن خلال تلك الحروب تستنفذ موارد دول وتصبح خاضعة عند إعادة بنائها إلى شروط صندوق النقد والبنك الدولى وتنتعش شركات المقاولات فى الإمبراطورية، ولأن الثورات التى تشتعل من الداخل بأصابع جهاز المخابرات المركزية الأمريكية تدمر بنية الدول من الداخل وبواسطة سكانها، فإن تكاليف علاجها يحتاج إلى إعادة بناء المؤسسات من جديد وكذلك إعادة بناء اقتصادها، فتخضع هى الأخرى لشروط صندوق النقد والبنك الدولى، وتصبح لقمة سائغة لحكم فى فم حكم الكوربوقراطية، وهى التعبير الشهير لقناصى الاقتصاد المتخفى فى الشركات العابرة للقارات، ولتحقيق ذلك ابتدعت عالم افتراضى، لتغلف به العالم.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز