عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
موسـكو

موسـكو

بقلم : طارق رضوان

للروس تاريخ طويل وممتد مع مصر. فالدولتان تتشابهان كثيرا فى التاريخ الممتد لآلاف السنين. ولهما حضارات قديمة وقوة ناعمة لها تأثير كبير على العالم. ودوما العلاقات ما بين البلدين تتسم بالإنسانية والحضارة. لم نر من الروس أبدا فى العصر الحديث سوى الدعم والتأييد والمساندة فى أحلك الظروف. لم نر منهم إلا كل خير. تباعدت العلاقات وفترت لسنوات. لكن يبقى للروس مكانة خاصة لدى مصر.



لم يخذلنا أبدا الدب الروسى. وإن كان فى بعض الأوقات ينظر إلينا بعين الشك والريبة. فقد كانت نظرته سلبية وقت قيام ثورة يوليو. فقد كانوا يرونها انقلابا عسكريا حتى قابلوا عبد الناصر وجها لوجه. تبدلت الأحوال، وأصبح – الاتحاد السوفيتى وقتها - الحليف الاستراتيجى لمصر. فقد كان السند وكان حجم التأييد السوفيتى لمصر كبيرا فى حجم المساعدات الاقتصادية والعسكرية التى قدمها.

فقد وقف بجوار مصر وهدد بالتدخل النووى وقت حرب السويس 1956. وكل الحروب التى خاضتها مصر كانت بسلاح سوفيتى. حتى انتصار أكتوبر العظيم كان بسلاح سوفيتى. وعلى المستوى الاقتصادى قدموا لمصر مشاريع السد العالى وكهربة الريف وإنشاء المصانع الثقيلة. بمعونات ذات فوائد دين قليلة. لكن الدب الروسى شعر بالإهانة من ابتعاد دوره بعد حرب أكتوبر. يظن البعض أن الاتحاد السوفيتى شعر بالجرح عندما طلب الرئيس السادات مغادرة الروس لمصر قبل حرب أكتوبر. وهو خطأ تاريخى وقع فيه كثيرون. فقد كان الاتفاق مع جمال عبد الناصر بترحيل الروس عن مصر إذا أقدمت على الحرب مع إسرائيل بعد نكسة 67 لتكون الحرب عربية إسرائيلية كى لا تتدخل الولايات المتحدة الأمريكية بشكل واضح. طلب بريجينيف ذلك من ناصر وكرر طلبه من السادات بعد معاهدة الوفاق ما بين نيكسون وبريجينيف التى كان مهندسها هنرى كيسنجر. وأوفى السادات بالوعد وقام بترحيل الروس قبل عام تقريبا من حرب أكتوبر. ليكون النصر عربيا خالصا. لكن جرح الروس كان فى تحركات السادات نحو الولايات المتحدة بعد فك الاشتباك الثانى دون الرجوع إليهم. ثم توالت الأحداث التى خسر الروس فيها الحليف الأكبر فى الشرق الأوسط بعد انتظارهم لرد الجميل بعد انتصار أكتوبر. وفترت العلاقة أكثر ووجه السادات اتهامات كثيرة للروس جعلت الجرح الروسى يزداد عمقا وتزداد العلاقات ابتعادا وفتورا. حتى حدث الزلزال السوفيتى وانهارت الإمبراطورية السوفيتية. وانكمش الدب الروسى يعيد ترتيب البيت من جديد. فقد مر بكوارث ومآسى إنسانية بعد الانهيار والتفكك جعلت منه شبه دولة آيلة للسقوط. لكن فى بضع سنوات استطاع الدب الروسى أن يستعيد توازنه ويرتب أولوياته وأوراقه لينهض متعافيا مسرعا نحو طريق القوى العظمى. بعدما تعلم الدرس المؤلم من سنوات الضياع. لكن الجرح الروسى تجاه مصر خاصة والعرب عموما كان لا يزال يترك أثرا على العلاقات. فهم يشعرون بأننا نذهب إليهم بعد أن نيأس من الغرب ونفقد الأمل فيهم. ونذهب إليهم مضطرين لا راغبين وغير متحمسين.

وأننا نحاول من خلال التقرب مخاطبة الغرب من فوق رؤوسهم. وبأننا نتعامل معهم على أنهم تجار سلاح وليس فكرا وثقافة وحضارة وتاريخا. وأخيرا عندما تسنح الفرصة للعودة مرة أخرى لأحضان الأمريكان والغرب نهرول  تاركيهم فى الهواء الطلق. لكنهم الآن يريدون فتح صفحة جديدة دون العودة والحديث عن الماضى. بدأت العلاقات للدفء عندما تولى الرئيس السيسى مقاليد الحكم فى البلاد. وقتها أعطانا العالم ظهره وظهرت ألاعيب الغرب فى تأييد الإخوان الفاشيست لأخونة جنوب البحر المتوسط. حدث ذلك فى الوقت الذى وضع الروس منذ عام  2007 جماعة الإخوان ضمن المنظمات الإرهابية ولا يريدون ولا يعرفون التعامل معهم، وهو ما فسر طريقة استقبال الرئيس الإخوانى – الذى لا يحضرنى اسمه الآن -  عند زيارته للكرملين. كان اللقاء فاترا. وعاد الإخوان من هناك بخيبة أمل. وعندما انفجرت ثورة يونيو العظيمة كان التأييد الروسى سريعا وحاضرا لدرجة  أن الثوار فى الميادين علقوا صورة الرئيس بوتين على الجدران اعترافا بالجميل. بعدها جاء مدير المخابرات الحربية الروسى ومعه أكثر من عربون محبة. صفقات السلاح البديل عن السلاح الأمريكى. أهم عروضه كانت فى القمر الصناعى العسكرى وطائرات الميج فى آخر فئاتها التى تماثل تماما الـ«f 16». وقدموا مشاريع اقتصادية دعما لمصر كان أهمها  إقامة المفاعل النووى المصرى فى الضبعة وتوقيع أكثر من اتفاقية لبيع السلاح للجيش المصرى، ضمن خطة مصر لتنوع مصادر سلاحها بعدما اقتصرت لفترات طويلة على السلاح الغربى عموما وعلى السلاح الأمريكى بشكل خاص. كما قاموا بعقد اتفاق لإنشاء منطقة صناعية بمحور قناة السويس. وهو ما  أثار ذعر الغرب فتحرك سريعا للوقيعة بتفجير الطائرة الروسية فوق سيناء لتتعقد العلاقات ما بين القاهرة وموسكو. وهو حادث إرهابى مدبر لدق إسفين ما بين البلدين. لكن الرئيس السيسى استطاع بحنكة سياسية ورغبة صادقة في التعاون وأعاد العلاقات للدفء فى أسرع وقت. فتكررت الزيارات وتعددت الاتفاقات وعادت المياه إلى مجاريها. فمصلحة الدب الروسى لا تتم إلا فى وجود علاقات قوية مع أهم دولة فى الشرق الأوسط.

كما أن هناك كثيرًا من القضايا الدولية تنطبق وجهة نظر مصر مع وجهة النظر الروسية التى تخص المنطقة العربية. هذه المرة سافر الرئيس السيسى إلى موسكو وفى حقيبته كثير من الملفات المهمة، خاصة بمصر ومشروعاتها وخططها نحو البناء. وخاصة بالمنطقة العربية التى ترقد على برميل من البارود يكاد ينفجر فى أى وقت. فالإمبراطور الأمريكى كالثور الهائج كلما وجد التمدد الصينى يزداد فى العالم بشكل عام وفى منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص. وهذا هو الصراع الحقيقى فى العالم الآن. وصل الصراع المشتعل إلى الشرق الأوسط وطالت نيرانه العالم العربى وبالتحديد فى منطقة الخليج بعد التواجد الصينى الكبير فى تلك المنطقة الاستراتيجية للغرب. وهنا يأتى كالعادة دور مصر. دورها التاريخى فى إطفاء الحرائق فى المنطقة. والسعى الدؤوب عند كل الأطراف للحفاظ على استقرار المنطقة والحفاظ على وحدة وتماسك العالم العربى. فقد جاء دور مصر بعد أن عبرت أزمتها بمنتهى القوة والإصرار والإخلاص بالتعامل بشكل واقعى مع كل أزماتها.

وبدأت طريق بناء الدولة القوية المرتكزة على الإصلاح الداخلى وعلى تنوع علاقاتها مع الشرق والغرب على حد سواء. خرجت مصر القوية من عباءة التبعية للغرب التى استمرت لسنوات طويلة وتحررت من قيودها القديمة. وفتحت علاقاتها على العالم من أجل مصالحها ومن أجل مستقبلها. وكان الروس عند حسن الظن. يمدون أياديهم للتعاون. فقد قدموا للعالم قوتهم الناعمة التى تعلمت منها البشرية. أدبهم الفذ فى القصة والرواية والشعر «جوجول وديستوفسكى وتلستوى وتشيكوف وبوشكين».

وفنهم المتنوع، بداية من فن الباليه العظيم «البلوشوى» وموسيقاهم «تشايكوفسكى» وفكرهم ورؤيتهم الفلسفية وعلمهم الواسع. الروس أمة كبيرة وحضارة ناعمة كمصر تماما. لذلك فالكيمياء ما بين رئيس البلدين السيسى وبوتين جاءت من تاريخ طويل ونضال وكفاح لبناء دولتهم القوية.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز