أيمن عبد المجيد
إبراهيم نافع الذي عرفته
بقلم : أيمن عبد المجيد
مبتسم، يتحدث همسًا، أنيق الملبس، عميق الفكر، متواضع، يؤمن بضرورة أن تفعل الخير طالما منحك الله منصبًا يُمكنك من مساعدة الناس.
كانت الساعة ناهزت الحادية عشرة ظهر 15 ديسمبر 2011، عندما أقلعت بنا الطائرة من مطار القاهرة في طريقها إلى بغداد، كان مقعدي إلى جواره خلف كابينة القيادة مباشرة، ألقيت عليه السلام: "صباح الخير أستاذنا"، رد بصوته المميز الذي يخرج من أعماق حنجرته بهدوء مبتسمًا: "أزيك يا أيمن، أخبارك إيه؟".
وجدتها فرصة سانحة لاستكمال ما بدأته معه من حوارات في اتحاد الصحفيين العرب، بداية يناير 2011، عن الصحافة والسياسة، وحالت أحداث الثورة وتقلبات الإدارة في المؤسسات الصحفية عن استكمالها.
ذكّرته باليوم الأول الذي رأيته فيه، فحاول أن يرسم الابتسامة على وجهه، لم يستطع حجبها، لمحة حزن وألم، كان يومًا شديد الحرارة من أيام أغسطس 2003، حيث أتردد على الأهرام في تدريب صيفي، ما أن تطأ قدماك باب المؤسسة العريقة، حتى تشتم هواءها الرطب، الذي تدفعه التكييفات محملًا بنسمات أحبار الطباعة، التي لا يمكن لفتى يجاهد لنيل شرف الانضمام لبلاط صاحبة الجلالة أن ينساها.
وإذ بي أنتظر "الأسانسير"، شاهدت شخصًا يسرع إلى أحد المصاعد، يسبقه صوته مكررًا "الريس وصل" وسع، ظننت لوهلة أن الرئيس مبارك قادم، فلفظ: "الريس" كان مرتبطًا في ذهني برئيس الدولة.
أفسحت الطريق، منتظرًا القادم، فإذ برجل مهيب، ممشوق القوام، طويل القامة، يتجه نحو المصعد والجميع يلقي عليه التحية عن بعد بأدب، وهو يرد بهدوء بالاسم: "صباح النور يا ...".
كان مرتديًا قميصًا أبيض ناصع البياض، ورابطة عنق، يحمل "جاكيت بدلته" على ذراعه اليسرى، وخلفه يسير فردان وثالث يحمل حقيبة يد "سامسونايت"، كانت سعادتي بالغة لرؤية عملاق الصحافة، نقيب الصحفيين، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام ورئيس تحرير الصحيفة الأكثر تأثيرًا وانتشارًا في الشرق الأوسط، وأنا الطالب الباحث عن تدريب.
اقتربت من الأسانسير الذي جيء به على عجل، فإذا بأحد مرافقيه يشير بيده - في إشارة إليّ - أن هذا الأسانسير للريس، فنظر إليه العملاق قائلًا: "سيبه، وإليّ: اتفضل"، ابتسمت وقلت: أشكر حضرتك، الأسانسير "الثاني وصل"، ابتسم العملاق مجاملًا الشاب، مُصرًا على دعوته فاستقللته معه دون حديث.
ظل ذلك الموقف عالقًا بذهني، لم تمر بضع سنوات، حتى تخرجت والتحقت بروزاليوسف، كان ذلك ديسمبر 2005، كان بحر الصحافة جرت به مياه كثيرة، فالقيادات التاريخية التي جلست في مقاعدها 25 عامًا قد أحيلت للتقاعد، وعلى رأسهم الأستاذ إبراهيم نافع.
"سرح الريس" للحظات قبل أن يرد: "ياه يا أيمن كانت أيام"، بالطبع قد لا يذكر الموقف، لكنه استعاد في لحظات الصمت، موكبه ومقعده ومنصبه المهيب، توقعت ما جال بخاطره، فأردت أن أخفف لمحة الحزن التي كست وجهه: "موقفك كان إنسانيًا معي يا ريس، لم أتوقع الدعوة للصعود معك، لكن لماذا لمحة الحزن؟!".
أجاب: "شُفت الناس اللي كانت بتجري حولي دي، لي أيادي بيضاء كثيرة عليهم، الآن تليفوني ممكن يفضل يوم كامل لا يرن للسؤال عليّ، كان لا يبطل رن من طلبات الخدمات، وظائف لأبنائهم، وتخصيص شقق ووظائف في أماكن كبيرة".
أكيد مش كل الناس وحشة يا ريس؟!.. "طبعًا في ناس ولاد حلال وولاد أصول".
شعرت حينها بمدى قسوة أن تظل في صدارة المشهد الصحفي 25 عامًا، الأقرب إلى السلطة الحاكمة، ثم تغادر، فيبحث اللاهثون خلف معتلي المناصب، بحثًا عن رضاء الجالس الجديد.
كانت حملة نهش نافع قد بدأت، وأُشهرت أقلام في وجهه، تحاول اغتيال سمعته، تارة بزعم حصوله على 3 ملايين في الشهر، وأخرى تتهمه بالفساد.
كررت سؤالًا سبق أن طرحته عليه، هل فعلًا كنت تتقاضى 3 ملايين شهريًا يا ريس كما يزعم منتقدوك؟
ابتسم، لا طبعًا رقم مبالغ فيه.
طيب هل ما حصلت عليه، وفق أسانيد قانونية؟
طبعًا، ما حصلت عليه هو النسبة التي تقررها اللائحة.
هل وضُعت اللائحة في عهد حضرتك؟
اللائحة التي سرت عليها وضعها الأستاذ هيكل، والنسبة التي كنت أتقاضى مستحقاتي بمقتضاها هي التي كانت يتقاضى هيكل مستحقاته بها.
إذًا بماذا تُفسر الهجوم عليك؟
نفوس ضعيفة، والحملة بدأها صحفي تم توجيهه من قيادة بالنظام لتدمير سمعتي.
من هو، ومن وجهه، ولماذا، وحضرتك كنت رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير المؤسسة الناطقة باسم الدولة؟
أرادوا أن يبعدوني عن الرئيس، صراع جبهات في الحزب الوطني.
هو مين الصحفي، أنت عارفه، مين غيره؟! لكن من وراءه، هقولك بس مش للنشر......
طيب وأرقام الدخل التي تُشاع؟
اللائحة تنص على نسبة لرئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير من دخل المؤسسة، وأنا تسلمت المؤسسة رئيس مجلس إدارة عام 1984، كان رأس مال المؤسسة 126 مليونًا، جزء كبير منه زيادة منذ أن توليت رئاسة تحرير صحيفة الأهرام، أدرتها بشكل اقتصادي وسلمتها برأس مال حوالي مليار ونصف المليار في 2005، كنت أحقق دخلًا كبيرًا للمؤسسة، فالنسبة تزيد، وقاضي التحقيق برأني، وأنت نشرت ده في "روزاليوسف".
فعلًا نشرته.. جاءت المضيفة، لتقدم الضيافة فتوقف الحديث.
كان الأستاذ لا يزال رئيسًا لاتحاد الصحفيين العرب، وكنت بدأت خطواتي في بلاط صاحبة الجلالة، محررًا لشؤون نقابة الصحفيين والاتحاد، والقضايا الإعلامية، فأجريت حوارات مع القيادات الجديدة، بينهم الأستاذ صلاح الغمري رئيس مجلس إدارة الأهرام، الذي خلف الأستاذ نافع، وتحدث عن فتح ملفات المخالفات بالأهرام.
إلى الأستاذ إبراهيم لمنحه حق الرد، فكان أن آثر الصمت لسنوات، رافضًا التعليق، مكتفيًا بالرد القانوني على قاضي التحقيق، الذي تلقى الكثير من البلاغات، وكان الأستاذ يعدني بأن يختصني في الوقت المناسب بالرد.
لكن اللقاءات كانت تتوالى في اتحاد الصحفيين العرب، والأحاديث تطول، شريطة ألا أنشرها، والتزمت، فنمت شجرة الثقة، وتحوّلت لعلاقة إنسانية تطورت لاتصالات متكررة، حتى بعد أن غادر مصر إلى الإمارات.
حتى فوجئت باتصال عام 2012 من الأستاذ يحدثني عن سطو تعرضت له الفيللا الخاصة بابنه، في ظل الانفلات الأمني، ويسأل عن إذا ما كنت أعرف مسؤولًا بمديرية الأمن لاتخاذ اللازم لخشيته على أسرة نجله وأحفاده.
يومها حزنت لشعوري بمحنته، فالأستاذ ربما لجحود من ارتقوا في مناصبهم بدعمه، لم يتمكن من الاتصال بهم، فيما كانت اتصالاته بأعلى القيادات التي غادرت مناصبها بعد الثورة، يومها كنت حريصًا على أن أخفف عنه بتحقيق رغبته، كان برفقتي زميلي سعد حسين، المحرر القضائي، عندما تلقيت المكالمة واجتهد معي باتصالاته بالنيابة والشرطة، التي انتهت إلى أن الخادمة سهّلت للصوص دخول الفيللا، تنازلوا عن البلاغ، وحرر المتهمون تعهدًا بعدم تعرض، فاطمأن الأستاذ على أسرته في غربته.
وللحديث بقية إن شاء الله.