عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
سعودة مصـــر

سعودة مصـــر

بقلم : طارق رضوان

نزل الستار وانتهى العرض، أطفئت أنوار المسرح ورحل الممثلون إعلانًا عن انتهاء الموسم، ورفعت الرواية القديمة للأرفف، فالكاتب مزق السيناريو القديم وألقى على المائدة سيناريو جديدًا لعرض جديد بدأت بروفاته، تحضير ديكور وإضاءة ونص وإخراج. انتهى عرض مسرحية الوهابية، ومع دوران أول آلة عرض لأول فيلم سينمائى فى أول دار عرض سعودية فى الرياض، سيبدأ نص جديد للمنطقة كلها، وتتفتت من على صدر مصر حجر ثقيل اسمه (سعودة مصر). 
 



فى عام 1971 - عام الحسم - حدث شيء غريب لم تكن له سابقة من قبل فى تاريخ الأزهر، عقد الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية ما يكاد أن يكون اتفاقية مع شيخ الأزهر وقتها د. عبدالحليم محمود، عرض الملك فيصل على مشيخة الأزهر اعتمادات تصل قيمتها إلى مائة مليون دولار لكى يتولى الشيخ قيادة حملة دعوة ضد الشيوعية والإلحاد - دفع الملك فيصل بالفعل جزءًا كبيرًا منها وهو 40 مليون دولار - لكن رئيس الوزراء الدكتور محمود فوزى فى ذلك الوقت وجد أن الدولة تشتد حاجتها إلى النقد الأجنبى، وهكذا حول هذا المبلغ إلى خزينة الدولة، ثم قدم لشيخ الأزهر نقدًا مصريًا للصرف على ما يراه من أغراض الدعوة، واندفع الشيخ إلى برنامج إعلامى كبير، فكتب بنفسه عدة كتب (الإله الذى هوي) والذى شارك فى تأليفه عدد من المفكرين الأوروبيين والأمريكيين الذين بهرتهم الشيوعية لأول وهلة ثم استيقظوا على الواقع المر فى التطبيق أيام السفاح ستالين، وتم بناء بعض المساجد الجديدة فى وسط القاهرة الخديوية، وكان التخطيط أن يبنى بجوار كل كازينو مسجد، كما صرفت مبالغ كبيرة على سفر وفود دينية تحمل رسالة الدعوة. لم يكن ذلك هو الطريق الوحيد الذى اتبعه الملك فيصل ومدير مخابراته كمال أدهم فى تشجيع ومساعدة اليمين الدينى فى مصر، وإنما ذهب إلى أبعد من ذلك حين حاول أن يرتب مصالحة بين الرئيس السادات ومجموعة من الإخوان المسلمين، كان الإخوان المسلمون موزعين على عدة مجموعات، كانت هناك أولاً تلك القلة التى ظلت على اعتقادها بأن العنف والإرهاب هما أفعل الوسائل لتحقيق أهدافهم، لكن معظم هؤلاء كانوا لا يزالون إما فى السجون أو مختفين تحت الأرض، وكانت هناك مجموعات ثانية هم هؤلاء الذين غادروا مصر هربًا من الاضطهاد أو بحثًا وراء فرصة عمل فى الخارج وكان كثيرون من هؤلاء قد جمعوا ثروات طائلة، وأخيرًا كانت هناك مجموعة هؤلاء الذين فضلوا البقاء فى مصر وحاولوا قدر المستطاع أن يواصلوا الدعوة فى ظل الظروف القائمة مهما تكن صعوبتها، وفى صيف 1971 نجح كمال أدهم بتوجيه من الملك فيصل فى أن يرتب اجتماعًا بين السادات وبين مجموعة من الإخوان المسلمين الذين ذهبوا إلى الخارج، وبالفعل تم عقد الاجتماع فى استراحة الرئيس فى جانكليس فى إطار من السرية المطلقة، حضره بعض زعماء الإخوان فى الخارج بعد أن حصلوا على ضمان بتأمين دخولهم إلى مصر وخروجهم منها، والتقوا هناك بالرئيس السادات، كان بين هؤلاء الدكتور سعيد رمضان الذى عاش بعض الوقت فى السعودية ثم رحل إلى جنيف ليرأس منظمة إسلامية ترعاها المملكة العربية السعودية، وكلف ببناء مسجد هو الأشهر فى أوروبا (مسجد ميونيخ)! وبعد اللقاء والاتفاق والصفقة وقراءة الفاتحة لإخلاص النوايا، وقعت أحداث مثيرة تحمل فى طياتها كثيرًا من الألغاز السياسية التى لم يفهمها الناس وقتها. كانت تلك الأحداث والمفاجآت من عام 1971 إلى عام 1972 هى ظاهرة الحرائق المتتابعة والتى بلغت خلال عام واحد 28 حريقًا أشهرها احتراق دار الأوبرا فى ذكرى ميلادها المئوى على وجه التقريب، وهى الدار التى بناها الخديو إسماعيل فى قلب القاهرة كمظهر حضارى يدل على التمدن والارتباط الثقافى بالغرب. وقد افتتحها بأوبرا «عايدة» للموسيقار الإيطالى «فيردي»، وكانت الدار الأوبرالية الوحيدة صاحبة التاريخ فى الشرق، وقف المصريون فى الساحة المسماة باسمها متشحين بالسواد لا يصدقون أعينهم، وقد غطى الدخان الأسود الهيكل الخارجى للبناء، ولا ريب أن الكثيرين ممن تفجرت عيونهم بالدموع فى ذلك اليوم الكئيب لم تتجاوز أقدامهم أعتاب هذا البناء يومًا، لكن الشعور العام كان الحزن والاكتئاب على حدث قومى فاجع، ولم يهتم الناس بالتحقيق الذى لم يسفر عن شيء والذى كاد أن ينال خفيرًا متواضعًا يحرس المكان بالنوم فيه، لولا أن جاء التقرير الفنى ليقول إن ماسًا كهربائيًا هو الذى أشعل النار. لم يصدق أحد بيان الخبراء والمهندسين وأساتذة الجامعة، خاصة أن الدار المحترقة تبعد عن المركز الرئيسى للإطفاء بما لا يزيد على بضع عشرات من الأمتار حيث تقع إدارة المطافئ بأجهزتها فى ميدان العتبة الخضراء المجاور، وقيدت القضية ضد مجهول، وهو ما لم يكلف الناس عناء الضحك الساخر وتأليف النكات كما هو الحال فى حرائق متشابهة، لم يكن السؤال الشعبى عمن يكون (الفاعل المجهول)، بل عن (المجهول القادم)، ولتكتمل الصورة وفقا للصفقة، قام الرئيس السادات بهدم معتقل طرة كرمز لتحطيم معسكرات الاعتقال الناصرية وعدم العودة إلى عهد الإجراءات الاستثنائية، وحين توجه ومعه وزير الداخلية وحشد من الصحفيين المصريين والأجانب ليشاهدوا حرق الأشرطة التى سجلت عليها أجهزة الأمن الناصرية الأحاديث الخاصة لبعض الشخصيات، لم ينتبه أحد حينذاك إلى الظاهرة المزدوجة أن الهدم الرمزى لسجن طرة الذى يقع جنوب القاهرة وشمال ضاحية حلوان لم يكن يعنى مطلقًا أن السجون فى مصر تحولت إلى حدائق، بل كان يعنى الإفراج عن بقايا (الإخوان المسلمين) الذين كانوا قد حبسوا بموجب أحكام قانونية منذ عام 1965 على إثر محاولاتهم المسلحة لاغتيال عبدالناصر، وقام أعضاء الجماعة يتقدمهم عمر التلمسانى بعد إطلاق سراحهم بالتوجه إلى القصر الجمهورى وتسجيل أسمى آيات الشكر للسادات فى سجل التشريفات الخاص بالرئيس، وكانت تلك بدايات خروج قوى الإخوان من القمقم الذى فتحه السادات بترتيب خاص من السعودية، ليبدأ عصر سعودة مصر، ودخول البلاد فى صراع التطرف والعنف باسم الدين، فقد كان الهدف الأكبر هو القضاء على القومية العربية التى بناها عبدالناصر، وكانت محاربة الشيوعية هى الذريعة التى تمت من أجلها الصفقة إياها والتى دفعت مصر ثمنها غاليًا، ودفع السادات هو الآخر ثمنها، وكان الثمن حياته هو شخصيًا رغم أنه اعترف بخطيئاته فى آخر خطاب له قبل اغتياله واعتذر عنه للشعب فى سابقة تحسب للرجل، فقد استولى الإخوان على كل المفاصل الاقتصادية بالبلاد تقريبًا، ولاقوا رعاية جعلتهم يتمتعون بمظلة حماية ينشرون من خلالها فكرهم المتطرف وينفذون خططًا غربية كادت تصل إلى التفريط فى أراضٍ مصرية تحت حكم الخلافة، بل وصل الأمر إلى أن صعد الإخوان لحكم البلاد فى أيام هى الأسوأ فى تاريخ مصر الحديث، ومازال هناك من الكوارث ما لم يعلن عنها بعد، الصفقة المشبوهة انتهت، وأصبحت ماضيًا انضم لكتب التاريخ، فعندما تدور ماكينات أول عرض سينمائى فى الرياض ستدخل المملكة عصرًا جديدًا، فقد أعلن صندوق الاستثمارات العامة فى السعودية أنه يخطط للدخول فى مشروع سينمائى مع شركة «إيه . إم . سى إنترتينمنت» القابضة المشغلة لدور السينما ومقرها الولايات المتحدة، بعدما رفعت المملكة حظرًا ساريًا منذ أكثر من 35 عامًا على دور السينما، فى إطار حملة إصلاحات فتحت الباب أمام الحفلات الموسيقية والعروض المسرحية، وانتهى دور الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وحرقت أطنان من كتب التطرف وكتب ابن تيمية، وتوقفت تمويلات المشروع الوهابى باعتقال مموليه، ومن هنا علينا أن نتحمل المسئولية لصناعة مستقبل خالٍ من التطرف والفكر المتخلف، مسئولية سد فراغ قوى التطرف ووضع استراتيجية التنوير والثقافة وتفعيل قوة مصر الناعمة، استراتيجية تحتاج إلى رجال بحجم المرحلة الخطرة وبحجم الحدث وبحجم المصالح الجديدة، ولن يفيد الأراجوزات والمدعون وأصحاب المصالح ورجال الماضى وكراكيب الماضى، فهم حمل ثقيل على أكتاف دولة بدأت بالفعل طريقًا جديدًا وعصرًا جديدًا، وتريد من يدفعها للأمام مكملاً الطريق وليس حملاً معطلاً ومعوقًا. الظرف التاريخى الذى نعيشه سينتج رجاله لا محالة.

رئيس تحرير مجلة صباح الخير 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز