العته النفسي .. والأنتخة الفيسبوكية
بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر
لا شك أن صفحات التواصل الاجتماعي قد أصبح لها تواجدا فاعلا وقويا في حياة الكثير من البشر لدرجة أن البعض يعتبرها مقياسا للرأي العام في العالم ومؤشرا موثوقا به في تقييم المجتمعات وتفاعلاتها الحياتية ، ولكنها في مصر تحمل صبغة مختلفة ربما يغفل عنها الكثيرين وذلك أن رواد صفحات التواصل الاجتماعي الفعلية في مصر لا يمثلون أكثر من 20% من الشعب المصري وهذا ربما يدقق ما أعلنه موقع مراقبة الانترنت في العالم (We Are Social)في شهر فبراير الماضي الذي أكد أن مستخدمي الإنترنت في مصر يصل عددهم إلى حوالي 48% من المصريين وهو ما يجعل مصر في المركز الـ (18) بالنسبة لدول العالم ويستخدم منهم مواقع التواصل الاجتماعي حوالي (25 : 30)% وهم من لديهم حسابات نشطة على هذه المواقع ، ويقدر المترددون على موقع الفيس بوك في مصر بحوالي 28 مليون شخص منهم عدد 23 مليون يستخدمون الهاتف المحمول للدخول للموقع وهم من يمكن اعتبارهم من المدمنين لموقع الفيس بوك ، حيث يتغافل المراقبون أن معظم رواد الفيس بوك في مصر يستخدمونه كوسيلة لشغل أوقات الفراغ والترفيه وإيجاد بديل للعلاقات الاجتماعية المفقودة خاصة في المدن الكبيرة ، فضلا عن الصفحات الموجهة والتي تتبع جهات ومؤسسات أو منظمات بعينها والتي غالبا ما تتورط في سجالات ومعارك متواصلة مع الصفحات المضادة وبعض الرواد .
ولا يمكن إغفال أن الغالبية العظمى لرواد الفيس بوك يستخدمون الفيس بوك كوسيلة لتفريغ شحناتهم السلبية والبحث عن شحنات نفسية إيجابية أو مسلية أو ممتعة في كثير من الأحيان وبالتالي فلا تشكل حقيقة الوجدان ولكنها قد تؤثر كثيرا في القيم والعادات الشخصية ، خاصة وأن مدمن الفيس بوك غالبا ما يكون من محترفي جلد الذات فينصب نفسه وصيا على البشرية على اعتبار أنه قادم من كوكب الأطهار ليقيم ويعلم هذا الشعب الفاشل من خبرته وعلمه ما يجب أن يطيعه وينفذه دون جدال أو مناقشة فهو صاحب الحق المطلق ، وهو ما يحول نقاشات الفيس بوك لحلقات متكررة من المشاحنات بالحروف والتي تتطور لأسوا عبارات وألفاظ السب والقذف والتي يتنافس فيها الإناث قبل الذكور حيث أن الفيس بوك بالنسبة لهم هو مجال تخيلي بلا مواجهة ولا مانع فيه من التخلي عن الحياء والأدب والتقاليد والاحترام ، حيث يمكن إنهاء كل هذا بضغطة زر لمحو كل ذلك ويعود الجميع لقواعدهم سالمين وقد افرغوا جرعات نفوسهم السلبية ، وربما تمتعوا بتعذيب غيرهم بالحروف والكلمات أو استمتعوا بحروف لا ترقى لمستويات الحقيقة والواقع .
وليس من الغريب بالطبع أن يكون الفيس بوك هو وسيلة تبادل لجرعات عاطفية مخدرة بين الجنسين ، خاصة لمن لا يجدون في واقع حياتهم هذه الجرعات الضرورية لاستمرار قدرته على العطاء والاستمرار ، سواء لظروف حياتهم الخاصة أو عدم قدرتهم على التكيف مع محيطهم الاجتماعي وما أكثرهم ، وكذلك ما أكثر ما تتطور هذه العلاقات الشفوية بالحروف والكلمات إلى واقع مندفع يتطور تبعا لنواياهم وقدراتهم ومصداقيتهم والتي كثيرا ما تنتهي بمشكلة نفسية أو اجتماعية للكثيرين نظرا لعدم الاستعداد الفعلي لديهم لتحويل العالم التخيلي لواقع يستطيع به تغيير واقعه كما تخيل ووعد كاذبا أو مجاملا بالكلمات على صفحات الفيس بوك ، ولذلك يحرص الكثيرون وخاصة الإناث الناضجات على وضع الحدود للعلاقات لمنع تطورها لما لا يحمد عقباه ، ناهينا عن محترفي الاستهتار والتسيب والانحراف والذين يجدون مرتعا خصبا لكل ما تعتمل به نفوسهم المريضة باستدراج السذج وعديمي الخبرة لمستنقعات الرذيلة أو الابتزاز والتهديد والتشهير وما أكثر الضحايا على صفحات الفيس بوك .
ويتصدر مدمني الفيس بوك ذلك المخلوق الملقب بــ (الفيسبوكي الأنتوخ / الأنتوخة) وهو مخلوق أنوي نادر ، عبقري يفهم في كل شيء وقدرته على المناقشة والجدال والمناورة غير محدودة ، كما يمتلك القدرة على تغيير قيمه ومواقفه في أقل من ثواني معدودة تبعا لنوعية محدثه ونواياه النفسية والشخصية تجاهه ، خاصة لو كان من جنس مختلف ، فما أكثر عاشقي نون النسوة من مشجعي (الفيسبوكيات الأنتوخات) ، فهذا العاشق يراها عبقرية ومبدعة ورائعة وخطيرة وأستاذة حتى ولو كانت تعتدي بحروفها على حدود الله والبشر وتهدم كل القيم والتقاليد والأعراف ، ومن الطبيعي أن الفيسبوكية الأنتوخة تصدق نفسها سريعا حيث تجد ما يمتع أهوائها المدحورة ويجبر نفسها المكسورة ، فتتحول لمخلوقة سليطة اللسان فاقدة للحياء مع من يعترض طريقها أو يخالفها الرأي مؤيدة بفصيل متهدل من عاشقي خرافات نفسها المتدلهة بسطوتها الفيسبوكية ، ويكثر على الفيس بوك الممولين والمدسوسين لحساب الماسونية العالمية لنشر أفكار يتم بثها كبالونات اختبار لتقبل المجتمع لها ، مثل أنصار تغيير شرائع الميراث والزواج بحجة التطور ، وكذلك نسبة المؤيدين لاستمرار السيسي في الرئاسة ، أو التصالح والعفو عن تجار الدين ، أو إمكانية إثارة الشعب لعمل فوضى جديدة ، أو إمكانية شحن الشعب ضد الدولة بتضخيم معدلات وأشكال الأحداث والحوادث أو الجرائم ، أو محاولة نشر فكر الإباحية تحت ستار التقرب للتطور والتقدم الأوروبي والغربي ، أو حملات التباكي على عصور الملكية البائدة بتزييف الحقائق وتزوير تفاصيلها وحقيقتها وتداعياتها مثل من يتعمد نشر صور شارع واحد من مدينة القاهرة في منتصف القرن قبل الماضي معلقا بفوز مصر بأجمل مدينة في العالم ، ويتناسى أن يومها لم يكن في القطر المصري طرقا مرصوفة سوى داخل القاهرة والإسكندرية فقط ، وكذلك من ينشر خبر قيام بلجيكا بالاستدانة من مصر في ثلاثينات القرن قبل الماضي ويتجاهل أن 90% من شعب مصر في حينها كان حافيا لا يعرف الحذاء ، أو كالذي ينشر صورا لمجموعة من النساء يرتدين الميني جيب في الستينات والسبعينات الماضية ويترحم على زمن الأخلاق وانعدام التحرش ، ويتجاهل سيادته أن هذه الملابس كانت فقط في القاهرة والإسكندرية ولا يرتديها إلا الممثلات والراقصات وهوانم الصالونات ونسبة لا تذكر من الشعب ، ومعظم نساء وبنات مصر كن يرتدين الملس والجلباب والعباءة والبرقع الذي يغطي الوجه .
ولا شك أننا بصورة أو بأخرى قد نمثل هذا (الفيس بوكي الأنتوخ / الأنتوخة) سواء على صفحات الفيس بوك أو حتى في جلساتنا الخاصة ، وربما يكون هذا نوعا من تفريغ شحنات العته النفسي السلبية من مكبوتات الحياة ، ولا ضير في هذا ولكن بشروط منصفة للجميع ، أولها .. ألا نقول إلا الحق وما نستطيع الدفاع عنه أمام الله قبل الناس ، فكثير من أقوالنا قد تصنع أو تساهم في بناء الفتن الكبيرة والتي هي أشد من القتل ، فلا داع لأن ندعي العلم بما لا نعرفه ولا علم لنا به ، ولا نطلق العنان لتخيلاتنا وأهوائنا مثلما يحدث في علوم إدارة الدول والسياسات والتي لا نعرف عنها سوى ما نسمعه ولا نعي أبعاده وأسراره ولا أساليب التعامل معه ، وثانيها .. ألا نكون سببا في إيذاء غيرنا من البشر بنشر خبر منقول لا نعرف مدى صحته ، أو التشهير بسمعة من لا نعرفه مجاملة لغيرنا أو تفريغا لشحنة كراهية أو غضب من فئة أو أشخاص بعينهم ، فهي الكلمات التي يحصيها علينا رقيب عتيد ، وما يقول عنها رب العزة { إذ تلقونه بألسنتكم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم } ، ويقول عنه كل الأنبياء والرسل وآخرهم خاتم الأنبياء والمرسلين {وهل يكب الناس على وجوههم يوم القيامة إلا حصاد ألسنتهم} ، وثالثها .. ألا ننسى أن الحياء هو زينة الأخلاق ومن فقد حياءه فلا خير فيه ، ورابعها .. ألا نقول في حق غيرنا إلا ما نقبله على أنفسنا من غيرنا ، فكل البشر سواسية ومن راعى غيره راعاه ربه ودافع عنه ، ومن أهدر حق غيره فسوف يهدر الله حقوقه بالمثل على يد آخرين ، فكلها ديون مردودة لو كنا نعلم ، وأخيرا .. ألا نقول ولا نفرض على غيرنا إلا ما نفعله ونلتزم به ، فــ ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) .
أخيرا لا شك أن الفيس بوك هو تطور زمني بديل لكثير من علاقاتنا الاجتماعية التي لابد وأن نقبلها ونتعامل معها بطريقة أو بأخرى ، ولكن في إطار قيود تقاليدنا الدينية والمجتمعية تجنبا لتداعيات سلبية خطيرة ، قادرة على أفقاد المجتمع المصري لهويته وشخصيته الفريدة وهي مسئولية مشتركة ما بين الدولة وأفراد المجتمع ، ولكن يقع العبء الأكبر على عاتق الأفراد ، والذين لابد وأن لا يتناسوا أن علاقات الإنسان بأقاربه هي أفضل وأبقى وأنفع حتى مع وجود الخوف من المنغصات مع الأقارب فالبشر هم البشر بكل سيئاتهم ومزاياهم ، سواء كانوا أقارب أو أصدقاء فيس بوك ، ولكن أقاربك أولى وأقل ضررا لأنهم منك وأنت منهم وأبقى وأنفع على الأقل مع الله الذي يوصي بذوي القربى في الدنيا ، بل ويكرم ويرحم من يصل رحمه خاصة لو كان يصلهم مرضاة لله ، وتلك أحد قيمنا الرئيسية التي نتناساها كثيرا ...