تسقط الأمم .. بتزوير المفاهيم (9)
بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر
توقفنا سابقا عند مفهوم جديد في القرآن تم تزويره بتعمد أو جهل بإهمال تدارس العلوم البحتة المنزلة في القرآن تحت مسمى أن القرآن من اختصاص أهل الذكر ، ليغلقوا أبواب العلم على بشر ماتوا منذ أكثر من ألف سنة ، وفي سبيل الحفاظ على مكاسب ومناصب ما يسمون أنفسهم برجال الدين وعلماءه ، قصروا الدين على علوم الفروض والحدود وأسموه زورا بالعلم الشرعي ، ليصنعوا له قدسية وحرمة فرضت رعبا ورهبة مقدسة على من يقترب من القرآن بمحاولة الفهم أو التدبر ، وعلى حساب دين الله وعلومه فضلوا تلقي علوم إعمار الأرض البحتة من البشر على أن يتدبروا ويفهموا ما أنزله إليهم رب البشر وخالقهم (سبحانه وتعالى) ، وقلنا أن المسلمين تفرغوا لآيات الفروض والحدود والتي لا تتعدى 3% من آيات القرآن ولا تزيد عن 5% من آيات العلوم البحتة وعلوم الخلق والكون في القرآن العظيم فأفسدوا فهمها وانقسموا بها بضعا وسبعين فرقة ، حتى أن آيات خلق النفس البشرية في القرآن والتي نتعرض لها اليوم توازي في عددها أكثر من ثلاثة أضعاف آيات الفروض أو الحدود ، ورغم هذا فما زال علماء وأطباء المسلمين غارقين في مجاهل دراسة وتدريس بل وعلاج النفس البشرية بعلوم ألفها واستنتجها بعض ممن احترفوا علاج المختلين والمرضى النفسيين ، حتى أنهم يعتبرون اليهودي الماسوني صاحب (النظرية الجنسية) والمعروف بـ (سيجموند فرويد) هو أبرع علماء النفس ويلقبونه بأبو الطب النفسي ، وقد كان أولى بمن ألفوا وتوارثوا ملايين الكتب في دراسة تفسير مائة وثمانون (180) آية فقط هي آيات (الفروض والحدود) أن يتدارسوا آيات علوم النفس في القرآن والتي تزيد عن ثلاثمائة آية محكمة ، والتي يدرك صدقها المطلق ودقتها (من غير المسلمين) من أنشأ معاهدا لدراسة علوم القرآن في دول غير مسلمة بل وتحارب المسلمين وتتربص بهم حتى اليوم ، بل ويقولون أن المسلمين لا يستحقون ما بين أيديهم من علوم تعتبر كنوز وثروات علمية غير مسبوقة ولا مثيل لها .
وقبل أن نستعرض آيات خلق الله للنفس البشرية والأكثر من ثلاثمائة آية ، لابد وأن نتوقف عند معاني وأنواع أفعال الله تعالى في إبداع الخلق ، والتي تكشف لنا حقائق وأسرار علوم خلق الله للإنسان والمخلوقات على الأرض والتي علمنا إياها سبحانه في آياته القرآنية الخاصة بالعلوم البحتة لخلق الكون والتي تزيد عن الألفي آية ، والتي كان من الأولى أن تجذب انتباه البشر منذ زمن بعيد أو على الأقل من نزول القرآن ، فهناك معان دقيقة تصف فوارق كبيرة بين أفعال الإبداع (الإتيان بالجديد) التسعة والمذكورة في القرآن وهي { الإبراء - الخلق - الإنشاء - التصوير - الإنشاز - الإحياء - الإماتة - التوفي - الكلء} هذا بالإضافة للأفعال الشمولية الخمسة التي تحتمل في تنفيذها بعضا أو أيا من أفعال الإتيان بالجديد السابقة مثل { الابتداء والإنهاء والإدخال والإخراج والإعادة} ، فالإبراء هو خلق الأشياء من العدم والتي نتعلمها من قوله تعالى .. {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }الحشر24 ، والخلق هو تغيير يتم إحداثه على شيء موجود ولو بخلطه بموجود آخر ليتحول لشيء له مواصفات أفضل من الأصل أو مختلفة عنه وهو ما نجده في كثير من الآيات أهمها {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }المؤمنون14 ، وهذه الآية تجمع بين الخلق والإنشاء ، حيث الإنشاء هو تركيب موجود في داخل موجود آخر مع احتفاظ كل منهما بأصوله ليكون نتاج الاتحاد بينهما شيئا آخر مواصفاته جديدة ومختلفة ، وقد ذكر الله الإنشاء مرة أخرى في حديثه عن النشأة الأخرى (الجديدة) للبشر بعد موتهم في قوله تعالى .. { نحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ } حيث أن النشأة الأولى هي المذكورة عاليه في سورة المؤمنون والتي علمناها من تكرارها كل يوم أمامنا ، بل وكل منا مر بها لو كنا نتذكرها (كما يقول سبحانه) .
والتصوير هو حصر شيء (حبسه) وتحديده في حيز أقل منه للوصول لمواصفات مطلوبة مسبقا والتي يصفها الخالق العظيم في حبس النفس في جسد بشري من طين بقوله تعالى .. {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ }الأعراف11، ومثله ما نفعله نحن عند تصوير شخص بحصره في بعدين (طول وعرض) على سطح ورقة أو في ثلاثة أبعاد في فيلم فيديو ، أما الإنشاز هو إنماء شيء كان موجودا وبدأ الانحلال لإعادته لأصله وهو ما عرفناه من قوله تعالى .. { ... وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً ... }البقرة259 ، والإحياء هو منح الجماد أو الشيء الغير حي سر الإحياء وهو الروح فيحيا ، والتي نفهمها من قوله تعالى .. {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }الحجر29 ، وقوله تعالى .. {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء91 ، والإماتة هي إخراج سر الإحياء من موجود حي ليتحول لجماد بلا حياة فيتحول لعناصره الأولية مثل قوله تعالى .. {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }غافر68، أما التوفي فهو إخراج ثم إمساك لموجود خارج تكوينه المنشأ فيه لزمن محدد والتي نفهمها من قوله تعالى .. {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الزمر42 ، وأما الكلء فهو الرعاية والتكفل والصيانة والحماية والتي نفهمها من قوله تعالى .. {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ }الأنبياء42.
ومن أهم الملاحظات على أفعال الإبداع (الإتيان بالجديد) لله تعالى ، أن لفظ الخلق (كفعل) جعله الله مشتركا بينه وبين عباده فأي فعل لبشر في شيء موجود لتغيير مواصفاته هو خلق لجديد ، كما أن لفظ الخلق يجوز إطلاقه على أفعال الإتيان بالجديد الأخرى ، ولذلك يقول سبحانه في ختام آية الإنشاء للإنسان وتدرج خلقه في بطن أمه في سورة المؤمنون (فتبارك الله أحسن الخالقين) ، ليمنح ابن آدم صفة وقدرة منه سبحانه لم يؤتها أحدا من خلقه من قبله ، لجلال مهمة الإعمار المكلف بها على الأرض واحتياج هذه المهمة لقدرة الخلق والإبداع ، فيجوز أن يقال فلان خلق شيئا جديدا لتصبح هي الصفة الوحيدة التي منح الله عباده من البشر شيئا منها من مجمل صفات الإبداع التسعة لله تعالى ، أما بالنسبة لأفعال الإبداع الشمولية الأخرى مثل { الابتداء والإنهاء والإدخال والإخراج والإعادة} ، فكل إنسان يمكن أن يطلق عليه صفة منها ولكن (نكرة) وغير معرفة بالألف واللام ، لأن الله وحده هو البادئ ولا أحد قبله ولكن قد يكون الانسان بادئا لعمل وقتي محدود بزمان ومكان ولكن الله وحده البادئ المطلق قبل كل الوجود وفي كل شيء مثل قوله تعالى .. {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }يونس34 ، وكذلك هو صاحب بصمة النهاية في كل شيء وآخرها الدنيا وما عليها مثل قوله تعالى .. {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }الأنبياء104 ، أما الإدخال والإخراج فيجوز لإنسان أن يدخل نطفة في رحم امرأة وكذلك يخرج طفلا من رحم أم ميتة بعملية قيصرية ولكنه أبدا لا يملك أن يخرج حيا من كل ميت مطلق مثل خالقه سبحانه فهو صاحب المطلقات وحده وكل الأفعال بمشيئته وإذنه وحده ولا شريك له لقوله تعالى .. {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ }الروم19 ، أما الإعادة فلا يملك فعلها سواه فهو وحده صاحب القدرة على إعادة حياة مخلوق مرة أخرى ، وهو صاحب الأمر والقدرة بإعادة خلق الدنيا مرة ومرات كما يقول سبحانه وتعالى {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }الروم11 .
وأخيرا .. تقف النفوس عاجزة مشدوهة عند إعجاز الله في آيات خلقه للإنسان والتي اختصرها سبحانه بقوله تعالى {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }لقمان28 ، وهي الآية التي جمع فيها رب العزة مجمل خلقه لبني آدم من بدايتهم منذ ما يقارب السبعة آلاف سنة وحتى نهايتهم المرتقبة ، وذلك في معنى بليغا يجمع ما بين عظمة البساطة وشدة التعقيد معا ، وأروع ما فيه أنه ينسف بقوة كل أباطيل وأساطير المفسرين التي ملئت عقول وقلوب البشر والمسلمين بالخرافات والخزعبلات والتي ما زالت تفرض سيطرتها الأخطبوطية الممتدة من بطون أمهات كتب التفاسير الصفراء وعبر تاريخ طويل من الزيف والبهتان وحتى مسامع أطفالنا اليوم في الحضانات والمدارس دون أن يجرؤ مسلم واحد على مواجهة طوفان الزور والضلال المتفشي في العقول والقلوب بما في كتاب الله من العلم ، رغم أن الحقيقة تحمل قمة الإبداع والروعة المتوافقة مع العقل والفهم والمنطق من رب يقول عن نفسه سبحانه وتعالى {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }غافر62 ، ولا ننسى أن من أروع إبداع الخالق سبحانه وتعالى كما يقول عن نفسه {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }البقرة117 ، أنه خلق وأبدع النفس البشرية .. وهي التي سوف نتناولها بالحديث لاحقا ...