بقلم
إيهاب الشيمي
الإزدواجية .. مصيبة شعب
12:00 ص - الإثنين 4 مايو 2015
بقلم : إيهاب الشيمي
السادسة صباحاً في القاهرة..
أحد أيام الأسبوع الأخير من شهر إبريل، و مازالت برودة الجو تجبر الجميع على احترامها بالرغم من مرور موعد رحيلها منذ فترة طويلة، بينما الأفق يبدو من بعيد ملبداً بالكثير من الشوائب و الضباب اللذان ينبئان بيوم حار، في تناقض غريب لم يعتد عليه المصريون في مثل هذا الوقت من العام، و الذي لا ينازعه سوى التناقض الرهيب بين خلو الطريق الدائري تقريباً في هذه الساعة، و بين الازدحام الشديد الذي سيعصف بكل شبر منه خلال الدقائق التالية !
خلال أقل من ساعة قطعت الرحلة من ضاحية الهرم التي أسكن بها وصولاً إلى لتجمع الخامس حيث مقر عملي، و اقتربت بسيارتي من مرآب (جراج) المبنى الذي أعمل به .. و توقفت للحظات حتى يمكن لأحد الكلاب المدربة تفحص جوانب سيارتي قبل أن أستطيع الدخول لأستمع لصوت شجار كسر حاجز الصمت الذي يلف المكان.
كان الصوت واضحاً جداً لدرجة تمكني من تمييز العديد من الألفاظ التي لم أتخيل يوماً أن أستمع إليها في مكان " أكل عيش " .. حين وصلت لمكان الشجار، وجدته بين اثنين من عمال النظافة المكلفين بالعناية بالمكان قبل وصول الموظفين، و حاولت جاهداً بالسلوك المصري المعهود أن أخفف حدة التوتر بينهما دون جدوى، بينما تطاير من حولي رذاذ أفواههم المعطر باقذع الألفاظ و كل منهما يحاول إلقاء اللوم على الآخر بالتقصير.
وسط لهيب المعركة انطلق فجأة صوت ملائكي لأحد الأدعية الدينية و كأنه يعلن نهاية الشجار، و لم أستطع سوى أن أقف متسمراً في مكاني من شدة الدهشة بينما يخرج أحدهم هاتفه المحمول من جيبه و هو مازال يردد نغمة الدعاء ليرد بصوت هادئ قائلاً : " سلام عليكم .. انت رحت فين امبارح بعد صلاة العشا يا حاج أحمد "
انسحبت قدماي دون أن أشعر من المكان و توجهتا بي إلى بهو المصعد في طريقي إلى مكتبي، و ظللت طوال المسافة من هناك و حتى ألقيت بجسدي على مقعدي، أحاول تفهم تلك الازدواجية الغريبة في شخصية ذلك الرجل التي اجتمعت فيها العصبية و الشجار و الاستماتة في التنصل من مسئولية التقصير مع كل تلك الرقة التي تعكسها نغمة الدعاء و كل ذلك الهدوء في أسلوب الرد على الهاتف، بل و كل تلك الروحانية التي تعكسها حقيقة أن الرجل من المواظبين على صلاة العشاء !
لم أستطع طوال ذلك اليوم أن امنع عقلي من عرض شريط طويل داخل رأسي لأحداث كثيرة عايشتها منذ زمن طويل و حتى اليوم، و لم يكن عنوان ذلك الشريط سوى .. "الإزدواجية " !
بدأ الشريط منذ طفولتي حين كنت أتابع أحد المقربين من عائلتنا، و الذي أنعم الله عليه بالعلم و سلامة المنطق، و لكنه في الوقت ذاته لم يستطع التغلب على ذلك الموروث الشرقي القبيح الذي يفضل أن يهبنا الله الذكور عن أن يهبنا الإناث، ليصر الرجل على الاستمرار في الانجاب على مدى عشرين عاماً دون أن يرزقه الله بمولود ذكر، و كأن شخصيتان مختلفتان تماماً تسكنان جسد الرجل !
و استمر الشريط ليعرض لي كيف كانت أمي تتباهى بأبيها و أعمامها الذين حصلوا على شهادات البكالوريا و الشهادات العليا من كلية التجارة و الحقوق في بدايات القرن الماضي ليشغل بعضهم مناصب مرموقة كضباط في الحرس الملكي و محامين يشار إليهم بالبنان في مهنتهم و مساعدين لوزير المالية، بينما ظلت هي في المقابل و في ازدواجية غريبة تصر على أن " كليات القمة " هي السبيل الوحيد لتحصل على مكان متميز في المجتمع، و أن أكون أنا و أخي بين خيارين لا ثالث لهما .. كلية الهندسة أو كلية الطب !
ثم انتقل بي عقلي في مشهد آخر للجامعة، حين مارسنا جميعاً تلك الازدواجية الشهيرة التي نصبنا فيها ذلك الشاب، ذو العلاقات المتعددة مع فتيات الجامعة، أيقونة يتطلع إليها الجميع، و يتباهى هو نفسه بذاته و بما يفعله كلما سنحت له الفرصة لذلك، بينما نرمق بنظرة دونية كل الفتيات اللاتي يرافقنه و نصفهن بقلة الحياء و الانحلال بل و العهر في بعض الأحيان، و كأن الشاب فقط هو من له الحق في ممارسة حرية مصادقة الجنس الاخر !
و لم يستطع عقلي بالتأكيد إغفال مشهد الازدواجية التي تمليها الخسة و المصلحة الشخصية، و المكاسب الآنية على حساب مصلحة الوطن، فأخذني في جولة سريعة مر بها على جماعة الإخوان المسلمين الذين طالما تغنوا بأناشيد تحرير القدس، و تفاخروا بعلاقتهم باغتيال الرئيس السادات لخيانته – كما يدعون – لأمته و دينه بعقد اتفاق سلام مع إسرائيل، بينما كان ممثلهم مرسي في الاتحادية يؤكد في أول بياناته على احترامه لتلك الاتفاقية، بل و وصل الأمر به أن وصف شيمون بيريز بالصديق العزيز في إحدى رسائله إليه فور توليه السلطة !
ثم عرج بي عقلي على رفاق الدرب الثوري الذين جمعتني بهم آمال و أحلام يناير، و خرجنا سوياً من أجل مستقبل أفضل لوطن علمنا أنه أعظم بكثير مما صوره لنا نظام مبارك، و من أجل غد علمنا أنه يمكن أن يكون أكثر إشراقاً لو تم إزاحة تلك الغمامة من القمع و كبت الحريات و الفساد و المحسوبية.
و لم تكن الازدواجية في ذلك المشهد إلا ازدواجية الحرية و الاستبداد و المرتبطة بحقيقة أن رفاقي و إن لم و لن يساورني شك في وطنيتهم و نقائهم، إلا أنهم و بالرغم من خروجهم من أجل إعلا قيم المساواة و حرية الرأي و عدم الإقصاء، إلا أنهم مارسوا كل ما يناقض ذلك من افتراض رجاحة منطقهم على كل ما سواه، و رغبتهم في إقصاء كل من هو دونهم من الجماعات السياسية الأخرى، و الاحزاب القائمة و الوليدة، بل و إقصاء من هم ليسوا مسيسين من الأساس بحجة أن كل هؤلاء لم يشاركوا في معركة التغيير، و بالتالي لا يستحقون تمثيل الشعب، حتى وصل ببعضهم الأمر في الثلاثين من يونيو أن رفض وجود من وصفوهم بالفلول وسط حشود الثائرين على فاشية الإخوان و عمالتهم، و كأن الوطن قد تم احتكاره لمن ثار في يناير فقط !
و لم يستطع عقلي أيضاً إلا أن يمر على نوع آخر من الازدواجية التي يعاني منها الكثيرون الآن و بدرجة كبيرة، حتى وصل الأمر بهم من شدة التشويش و التناقض أن أصبحت هذه الازدواجية سلوكاً و إدراكاً و وعياً لا يخدم شيئاً سوى الوقوف بعجلة تقدم الوطن وسط صحراء التخوين و العمالة.
فعلى الرغم من تأكيد الملايين، ممن انضموا لحركة المد الثوري في يونيو، بين كل لحظة و أخرى أن ضباط و أفراد الشرطة هم من نسيج الشعب المصري و أنه علينا مساندتهم في حربهم الضروس ضد الإرهاب، إلا أن هؤلاء في الوقت ذاته يمارسون نفس الازدواجية الغريبة التي سبقها إليهم شباب ثورة يناير، فبدأوا بمنح العصمة لكل من ينتمي لأجهزة الأمن و مهاجمة كل من ينتقد أدائهم من أجل الإصلاح، ليساووه بمن يشوههم من أجل تدمير الوطن، و وصموا بالخيانة كل من حاول الإشارة للبقع الضئيلة من الانتهاكات و الفساد التي تشوب الثوب الأبيض لتضحيات رجال الأمن، مستبقين بذلك أي تحليل منطقي أو أي تحقيق رسمي، بل و متناقضين مع أنفسهم حين أكدوا أن أفراد الأمن من نسيج هذا الشعب، و هو ما يحتمل بالتبعية إمكانية أن يحيد بعضهم عن الصواب، و ضرورة عقابه إذا ثبت ذلك، حتى لا يشوه فساده تضحيات الغالبية من الرجال المخلصين الذين وهبوا و يهبون أرواحهم يومياً للوطن.
و من السهولة بمكان الآن لك عزيزي القارئ أن تستنتج محتوى المزيد من مشاهد الازدواجية التي عرضها عقلي المزعج داخل رأسي طوال ذلك اليوم ..
فها هو مشهد بعض شيوخ الأزهر و هم يصرون على عدم إمكانية تكفير داعش بالرغم من جرائمهم و وحشيتهم و تكفيرهم لعموم الأمة، لأن الدين الإسلامي وضع ضوابط صارمة لتقرير خروج مسلم من الملة و استحقاقه إقامة الحد عليه، بينما نجد نفس الشيوخ و في ازدواجية غريبة يصرحون أن منكر الحجاب و هو عالم بفرضيته كافر كافر كافر !
و ها هو مشهد آخر لمن ينادون بحرية المعتقد و حرية الرأي و حرية الفكر ممن يرون عدم فرضية الحجاب، ينظمون و في إزدواجية غريبة، مظاهرات لخلع الحجاب و كأنهم يمنحون أنفسهم حق عدم الإيمان بفرضيته، و ينفون في الوقت ذاته عن غيرهم الحق في الإيمان به !
و ها هم من ثاروا لوطنيتهم و رفضوا أن يتم اختزال مصر في حكم الإخوان و رئاسة مرسي و أن توصف مصر و شعبها حينها بالخيانة و التخلف و التبعية لأحفاد العثمانيين، يمارسون و في ازدواجية واضحة نفس الخطيئة التي رفضوا أن تمارس ضدنا، و يصرون على سب أمم و السخرية من دول بأكملها لمجرد أن حكامها الحاليين يشتركون بمخطط لا يقل دناءة عن ذلك الذي اشترك به مرسي و أعوانه بينما شعوبهم منهم براء !
و ها هم من هللوا لمذيع أو صحفي أو إعلامي بعينه، و نصبوه إلها للنزاهة و الوطنية في مرحلة معينة من مراحل المد و الجزر الثوريين طوال السنوات الأربع الماضية، يعودون الآن ليصموا نفس الرجل بالخيانة و العمالة و كونه أداة لتنفيذ مخططات استعمارية و رأسمالية يفترضون سعيها للانقضاض على مقدرات الوطن و رغبتها في تدمير قيادته التي يلتف الشعب حولها !
و ها هو مشهد آخر تقوم أنت ببطولته عزيزي القارئ و أنت تلعن الواسطة و المحسوبية التي اقتطعت من حقوقك المشروعة لصالح آخرين، بينما تبحث و أنت في طريقك لتلك المصلحة الحكومية عمن يمكن أن يساعدك في تخطي دور مواطنين آخرين لتحصل على مميزات إضافية دون وجه حق !
مازال عقلي يعرض الكثير من المشاهد، و لكني لم أعد أقوى على المتابعة، فيقيني أن تقدم هذا الوطن لن يتأتى ببحثي عن تناقضات و ازدواجية الآخرين، بل بأن أبدأ في القضاء عليهما داخل نفسي أولاً .. و حين تنجح أنت في ذلك عزيزي القارئ، فاعلم أن آخرون سينجحون كذلك، و أن مصر ستكون وطناً أكثر فخراً بأبناءها.
تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز