بقلم
إيهاب الشيمي
جمهورية الواق واق
12:00 ص - الإثنين 20 أبريل 2015
بقلم : إيهاب الشيمي
رأيت اليوم أن أبتعد بكم عن السياسة و الدين و الثورات و المناظرات و العواصف ..
و أن أقص عليكم قصة صديقي الذي يعيش في جمهورية " الواق واق" الشقيقة التي يملأ مواطنيها الأمل في مستقبل مشرق، و يمل مسئولوها الدنيا بتصريحات توفير المناخ الاستثماري و البنية التحتية اللازمة لبناء اقتصاد قوي.
حدثت تلك القصة لصديقي منذ أسبوعين، حين عاد لمنزله من عمله متأخراً و منهكاً و هو يحمل بإحدى يديه الكثير من الملفات، بينما يحمل بيده الأخرى حقيبة " اللابتوب" ..
ما أن دخل البيت و أغلق بقدمه الباب حتى صاح في ولده الأكبر ليحمل عنه بعضاً من الملفات قبل أن تنهار قواه و تتبعثر مئات الأوراق على أرضية المنزل، و في لحظات انطلق ولده بالفعل ليلتقط الأوراق قبل أن تتساقط من يد والده، ثم بادره بالسؤال قائلاً: " ما كل هذا يا والدي؟ " و حينها أجابه: " هذه بعض الأوراق الهامة أحضرتها معي لكي أكمل تحليلاً مهماً لأحد المشاريع ثم أرسله عبر البريد الاليكتروني لزملائي لنتمكن من عرضه على مجلس الإدارة قبل ظهر الغد ".
و هنا ارتسمت بعض الخيبة على وجه الفتى و قال لوالده بصوت خافت: " و لكن خدمة الانترنت لا تعمل منذ الصباح يا والدي " ..
لم يستطع الرجل تحمل الصدمة .. فانهار على أقرب كرسي و هو ينظر في بلاهة واضحة إلى ولده، و كأنه لا يستطيع استيعاب الكلمات التي سمعها للتو !! بعد لحظات انطلق كالثور الهائج نحو "الراوتر" ليفحص توصيلات الأسلاك المرتبطة به، ثم ليغلقه و يعيد تشغيله من جديد كما كان يفعل و هو طفل مع ألعاب الفيديو في ثمانينيات القرن الماضي، و لكن كل محاولاته تلك باءت بالفشل ..
بعد تفكير قصير، التفت في حدة إلى ولده و صرخ قائلاً: " أحضر لي الهاتف لأرى إن كان يعمل أم لا "، و في خضوع و خوف شديدين اندفع الفتى ليجلب الهاتف لوالده، و ما ان التقطه حتى اصطدمت أذنه بسكون القبور الذي يملأ تجويف السماعة ليفقد حينها كل أمل أن يتم حل مشكلته سريعاً.
بعد ان استسلم للأمر الواقع، قرر أن يتصل بخدمة عملاء شركة " واق واق دوت نت" التي توفر له خدمة الانترنت و هي شركة كبرى متخصصة في هذا المجال، و بالفعل ردت عليه تلك الرسالة التلقائية التي تؤكد له أن مكالمته مهمة و أن هناك من سيقوم بالرد عليه حالاً، و هنا ابتسم في سخرية لأنه يعلم أن " حالاً" تعني في تقاليد هذه الشركة خمس و ثلاثون دقيقة من الانتظار المقيت، ليرد عليه في النهاية احد مندوبي خدمة العملاء و يستمع إلى شكواه ثم يبادره بالسؤال قائلاً: " هو حضرتك دفعت فاتورة التليفون ؟"
لم يستطع الرجل ساعتها تمالك أعصابه فصرخ في السماعة قائلاً: " تفتكر يا أفندي اني ما سألتش نفسي السؤال دة و أنا مستني جنابك ساعة إلا ربع عشان ترد على مكالمتي ؟" .. و حينها أدرك مندوب خدمة العملاء أن الأسئلة المعتادة لن تجدي نفعاً مع صديقي المتفجر و أبلغه أن فنياً متخصصاً سيقوم بزيارة السنترال في الصباح ليعالج المشكلة، و يتصل به ليتأكد من عودة الأمور إلى طبيعتها.
اتصل صديقي بزملائه ليخبرهم بالخبر المشئوم أنه لن يستطيع إرسال المعلومات اللازمة إليهم و أن عليهم الحضور صباحاً قبل موعد العمل بساعتين على الأقل ليمكنهم الاطلاع على التقرير النهائي، و لكن أحدهم أخبره في سعادة أن اجتماع مجلس الإدارة قد تاجل و أنه مازال أمامهم ثلاثة أيام على الأقل لإنهاء الأمر.
في اليوم التالي، عاد صديقي إلى منزله، و حالما فتح الباب بادر أهله بالسؤال قائلاً: " حد اتصل بيكم النهاردة من السنترال أو شركة الانترنت ؟" .. و رد الجميع في صوت واحد: " لأ يا بابا بس التليفون بقى فيه حرارة " ..
اندفع الرجل نحو هاتف المنزل و رفع السماعة و أطربه صوت عودة الخدمة مرة أخرى، ثم أمسك بهاتفه المحمول و اتصل على الفور بشركة " واق واق دوت نت" ليستعلم عن سر تأخر عودة الخدمة و عدم اتصال الفني به كما وعدوه، و كالعادة مر بجميع المراحل السخيفة بداية من ضغط الرقم واحد لاختيار اللغة العربية و مرورا بثلاثين دقيقة من الانتظار و نهاية بصوت مندوب خدمة العملاء الذي جاءه أخيراً ليسأله عن رقم الهاتف الذي يريد متابعة الشكوى بشأنه، و حين ذكر صديقي رقم هاتفه، راجع المندوب البيانات ثم أكد له أن فنياً قد توجه بالفعل للسنترال اليوم، و أن الرقم المذكور لم يعد موجوداً بالخدمة !! و هنا عاود صديقي تقمص دور إصبع الديناميت من جديد ليقول بصوت هادر: " هو انت يا أفندي هتعرف رقم تليفون بيتي أكتر مني؟ و لو الرقم مش في الخدمة.. أمال أنا بأكلمك منين دلوقت" .. و لكن المندوب أصر على موقفه و أنه ليس هناك أي خطأ فيما يقول و أن الرقم الظاهر أمامه ليس هو الرقم الذي ذكره صديقي له، ثم اقترح عليه أن يتصل على الرقم المزعوم من أي محمول آخر ليتأكد .. و بالفعل استدعى صديقي ولده الأكبر و طلب منه الاتصال بذلك الرقم الغريب الذي يدعي مندوب " واق واق دوت نت" أنه يراه أمامه، و كانت المفاجأة أكبر من أن يستوعبها ... جرس الهاتف يدق في المنزل !!
أغلق صديقي السماعة في غضب شديد في وجه المندوب، ثم اتصل برقم الشكاوى في " الشركة الواقواقية للاتصالات" و هي الشركة الحكومية التي توفر خدمة الخطوط الأرضية، و أعاد الرجل قصته من جديد على مسامع مندوبة خدمة العملاء، و عن مدى إمكانية تبدل خطه مع خط آخر بطريق الخطأ أثناء أية أعمال صيانة لدى الشركة، و هنا جاء صوت المندوبة قائلاً: " لا يا أفندم رقم حضرتك هو اللي اتغير فعلاً .. مبروك .. حضرتك بقيت على خطوط الألياف الضوئية الجديدة"
و هنا رد عليها صديقي متهكماً: " لا يا شيخة !! رقمي اتغير .. و بقيت ألياف ؟!!! من غير ما تقولولي ؟!!"
فأجابته بسرعة: " احنا اتصلنا بحضرتك من اسبوع الساعة 11 الصبح على تليفون البيت و محدش رد"
فاستكمل تهكمه قائلاً: " و الله يا ستي أنا لو أعرف انكم هتتصلوا كنت أخدت أجازة من الشغل أنا و المدام و قعدت الولاد من المدرسة عشان نعرف نرد عليكم الساعة 11 الصبح" .. ثم استطرد متسائلاً : " و يا ترى بقى الرقم الجديد هيتنقل بنفس الخدمات ؟" .. و جاءته الإجابة كالعادة " واقواقية النكهة" : " لا يا أفندم .. حضرتك هتقدم على كل حاجة تاني كأنه رقم جديد .. زيرو المحافظات .. و خدمة إظهار الرقم .. و الاتصال بالموبايل ... كله كله" !!
تدلت شفتا صديقي في بلاهة و هو يستمع لإجابات مندوبة " الشركة الواقواقية للاتصالات" و يبدو أنها أحست بصدمة الرجل، فسارعت لتخبره أنه يمكنه طلب كل الخدمات من خلالها الآن دون الحاجة للتوجه للسنترال، و هو ما فعله بالفعل، و هنا أكدت له المندوبة أن طلبه سيتم الاستجابة له خلال ثلاثة ايام عمل .. و استكمالاً للحظ السعيد الذي يتمتع به صديقي، فلقد كان ذلك اليوم هو الخميس و كان على صديقي أن يستبعد من الأيام الثلاثة يومي الجمعة و السبت ليتم الاستجابة له بعد انتهاء يوم الإثنين، و بما أن الأحد و الإثنين هما إجازة عيد القيامة و شم النسيم، فكان عليه أن ينتظر حتى نهاية يوم الأربعاء .. أي بعد أسبوع كامل.
بعد أن استطاع التغلب على إحباطه و غضبه، تذكر صديقي أن هاتف منزل والده الذي يقطن معه بنفس البناية في طابق آخر معطل أيضاً، و تذكر أيضاً أنه هو من تعاقد لوالده على خدمة الانترنت من خلال إحدى شركات المحمول الكبرى " واقا فون"، و بعد حديث سريع مع والدته، و مكالمة لخدمة عملاء " الشركة الواقواقية للاتصالات" اكتشف أن الموقف عند والده مطابق تماماً لما يعيشه منذ ثلاثة ايام، و هنا قرر الاتصال بشركة " واقا فون " ليخبرهم برقم والده الجديد حتى يتمكنوا من نقل خدمة الانترنت عليه.
بعد نهاية فترة الإجازات و الأعياد، تلقى صديقي مكالمتين من شركتي الانترنت " واقا فون" و " واق واق دوت نت" ليخبراه فيهما أنهما لن يتمكنا من توفير الخدمة في القريب العاجل على خطوط "الألياف الضوئية" لأن أجهزتهم تعمل فقط على "الخطوط النحاسية" القديمة و أن عملية التحويل تتطلب تعاوناً من " الشركة الواقواقية للاتصالات " و هو ما ترفضه هذه الشركة و أن " ما باليد حيلة " و لا يتبقى له في جمهورية "الواق الواق " بعد الله إلا أن يتصل بالجهاز القومي لتنظيم الاتصالات لتقديم شكوى ضد "الشركة الواقواقية للاتصالات".
و بالفعل و في صباح اليوم التالي، اتصل صديقي بالجهاز القومي و كله ثقة من أن ذلك الجهاز المعروف بانحيازه للمواطن الواقواقي البسيط ضد تسلط و انتهازية شركات المحمول الخاصة سيقوم باتخاذ اللازم تجاه " الشركة الواقواقية للاتصالات" التابعة للحكومة، و التي قامت بتغيير رقمه و وقف خدمة الانترنت و إعاقة استرجاعها من جديد من خلال مقدمي الخدمة. و جاء صوت مندوبة قسم شكاوى المواطنين في الجهاز عذباً على الطرف الاخر من السماعة : " مساء الخير .. تحت أمرك يا افندم " و هنا بدأ صديقي في سرد القصة من البداية مرة أخرى لها، ثم سألها في النهاية : " إيه الإجراء اللي حضرتك تنصحيني بيه بقى ؟" .. فأجابته بكل هدوء: " أحسن حاجة حضرتك تعملها .. انك توقف التعاقد مع شركتين الانترنت بتوعك و تتعاقد مع "الشركة الواقواقية للاتصالات" لأنها الوحيدة اللي عندها إمكانية توفيرها على خطوط "الألياف الضوئية" !!
و هنا صرخ صديقي في السماعة قائلاً: " لكن انتم كدة بتوافقوا على سياسة لوي الدراع و الاستهتار بحقوق العملاء اللي بتمارسها الشركة"
فأجابته بهدوء مستفز : " حضرتك وقعت على العقد مع "الشركة الواقواقية" و فيه بند بيقول ان من حقها تغير الرقم من غير ما ترجعلك .. أنا آسفة مش هأقدر أسجل شكوى حضرتك .. فيه اي استفسار تاني ؟"
أغلق صديقي السماعة في ذل شديد .. فعليه الآن أن يختار بين الاستمرار في المطالبة بحقه و رفض سياسة " لي الذراع" و فرض الأمر الواقع، أو الاستسلام للواقع المرير مقابل أن تعود خدمة الانترنت سريعاً.
لم يستغرق الأمر طويلاً حتى اتخذ صديقي في اليوم التالي قراره بالاستسلام و التعاقد مع "الشركة الواقواقية للاتصالات " من خلال شركتها للانترنت و المسماة " وي قي داتا" .. و بالفعل اتصل بخدمة العملاء، و لهول مفاجأته رد عليه مندوب خدمة العملاء في أقل من خمس دقائق و هو من اعتاد الانتظار لنصف ساعة على الأقل في الشركات الأخرى، ثم قام صديقي بسرد الموضوع كله للمرة الخمسين على مسامع ذلك المندوب و وضح له الرقم القديم و الرقم الجديد و الشركات المتعاقد معها، و السنترال التابع له، و كل ما يلزم لإنهاء الأمر.
و بالفعل بدأ المندوب في الإجراءات اللازمة للتعاقد من خلال شركة " وي قي داتا"، و لكن كل شئ توقف فجأة حين قال المندوب لصديقي عبر الهاتف: " أنا آسف يا أفندم .. مش هنقدر نكمل الطلب "
و هنا سأله صديقي: " ليه يا سيدي بس ما احنا كنا ماشيين كويس"
فأجابه: " حضرتك بالفعل مقدم على الخدمة من أسبوع و الخدمة بالفعل هتشتغل بكرة " !!!
لحظات من الصمت مرت فيها كل الاحتمالات في عقل صديقي بداية من احتمال إصابته بالزهايمر، و نهاية بإمكانية إصابته بانفصام كامل في الشخصية .. فكيف تقدم بطلب و هو الذي لم يكن يعلم رقمه الجديد من الأساس، و إن كان قد قدم عليها، فكيف تدعي شركتي الانترنت أنهما يحاولان توصيل الخدمة و أن " الواقواقية للاتصالات" هي من تعيقهم، و أخيراً كيف يتوقف كل شئ من أجل موسم الإجازات، بينما يستمر طلبه المزعوم فقط في التحرك بل و تفعيل الخدمة !
استجمع صديقي رباطة جأشه، و سأل المندوب: " هو إزاي أقدم طلب من غير ما أعرف ؟ .. طيب حضرتك قدامك طلب رسمي مني .. يعني أنا موقع و معاك صورة البطاقة ؟"
و هنا أجابه المندوب: " لا يا أفندم .. الطلب حضرتك مقدمه من خلال موزع معتمد .. و لو حضرتك عايز تشترك مباشرة مع الشركة .. ممكن تقدم طلب انهاء تعاقد للموزع و بعدها بثلاثة أيام عمل تقدم طلب للتعاقد مباشرةً معانا"
رد صديقي بسرعة قائلاً: " يعني أنت عاوزني أقدم طلب لموزع ما أعرفوش و غالباً مزور توقيعي و منتحل شخصيتي عشان ياخد منكم عمولة؟ .. دي مشكلتكم انتم مع موزعينكم مش مشكلتي أنا يا أستاذ"
فجاءه الرد الذي أكد له أن "جمهورية الواق واق" هي دولة قانون بالمعنى الكامل للكلمة : " حضرتك ممكن تقدم بلاغ في مباحث الاتصالات ضد الموزع بتهمة التزوير، و ساعتها بصورة البلاغ معتمدة من النيابة ممكن نتعاقد لحضرتك .. أو ممكن تبعت فاكس لقسم شكاوى الموزعين و ربنا يسهل" !!
انتهت القصة .. لكن ما لم ينتهي هو تساؤلي حول كيف كان سيكون الأمر لو أن هذا الرقم الذي تم تغييره هو رقم شركة استثمارية أو شركة مقاولات ممن سيبدأون العمل في المشاريع المستقبلية في " جمهورية الواق واق" ؟!
كيف ستتمكن هذه الدولة من النهوض اقتصادياً إذا كان هذا هو حال القطاع الذي سيدعم النمو الاقتصادي، و إذا كان هذا هو حال الأجهزة الرقابية التي من المفترض أن تحمي المستثمر ؟
كيف ننتظر أن تتقدم جمهورية "الواق واق" بينما يتم إهدار حقوق مواطنيها المتعاقدين تعاقدات رسمية مع شركات كبرى بدعوى أن شركات حكومية تفرض سطوتها على الجميع و تفرض سياسة الأمر الواقع ثم تعود تلك الشركات للتنصل من التزاماتها لصالح موزعين لا يجيدون إلا الاستيلاء على البيانات السرية للعملاء؟
إذا عرفتم الإجابة .. فاتصلوا بأي رقم عشوائي لتخبروا صاحبه بالإجابة .. فالأرقام التي تعرفونها قد تم تغييرها بالتأكيد !
تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز