

محمد نجم
الجرول الحطيئة.. الشاعر الشتام!
بقلم : محمد نجم
هو أبو بكر مليكة جرول بن أوس العبسى، لقب بالحطيئة لقربه من الأرض، فضلا عن ضعف جسمه ودمامة وجهة، ولد لجارية تسمى الضراء كانت عند أوس ابن مالك العبسى، ونشأ فى قبيلة عبس مغمورا مذلولا بسبب عدم صحة نسبه، وهو ما جعله يعيش وحيدا منفردا بأحزانه، منبوذا من القبائل الأخرى، فاتخذ الشعر سلاحا يهتك به أعراض الناس ويبتزهم ويدافع عدوان الآخرين عليه.
ومع ذلك فقد كان شاعرا قوى العبارة بديع البناء غزير المعانى تتلمذ على يد الشاعر الكبير زهير ابن أبى سلمى، وروى له ولأبنائه من بعده، ولكنه اشتهر بالهجاء حتى أنه لم يسلم أحد من لسانه، وعندما لا يجد من يهجوه كان يهجو نفسه، فقد شاهد وجهه فى بئر ماء.. فقال:
أبت شفتاى اليوم ألا تكلما بشر فمــا أرى لمــن أنـا قائلـــــه
أرى لى وجهـا شـوه الله خلقـــه فقبح من وجه وقبح حامله
كذلك لم تسلم أمه أو السيدة التى قامت على تربيته من هجائه، فقد قال فيها:
جــزاك الله شــرا من عجـــوز ولقــاك العقـــوق من البنينا
أغـربالا إذا اسـتودعت ســــــرا وكـــانونا على المتحدثين؟
تنحى فـاجلـــسى منى بعيــدا أراح الله منـــك العــــــالمين
وقد ولد الحطيئة فى الجاهلية، ولكنه عاش طويلا وأدرك الإسلام فأسلم ثم ارتد وأعان المرتدين بشعره:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا فيا لعبــاد الله مــا لأبى بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعــده فتلك وبيت الله قاصمة الظهر
وفى عهد عمر بن الخطاب هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر التميمى وكان سيد قومه يجمع منهم الصدقات يوزعها على فقراء المسلمين، ولم يصل للحطيئة شىء من العطايا فقال فيه:
دع المكــارم لا ترحــــل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العــرف بين الله والناس
أى أنت المطعوم المكسو، فلا تدعى الكرم بتوزيعك صدقات قومك، فاشتكاه الزبرقان إلى الخليفة عمر فحبسه، فأخذ الحطيئة يستعطفه بأبياته المشهورة:
ماذا تقــول لأفـــراخ بذى مــرخ زغب الحـواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم فى قعر مُظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر
لم يؤثروك بها إذ قدمــــوك لها لكن لأنفسهم كانت بك الأثر
فامنن على صبية بالرمل مسكنهم بين الأباطح يغشاهم بها القدر
فعفا عنه عمر بعد أن أخذ عليه عهدا إلا يهجو أحدا ويقال إنه اشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم! ومع ذلك فقد عاد للسباب والهجاء بعد استشهاد عمر، فقد سأل أمه عن أبيه، فلم تكن صريحة معه وخلطت عليه الكلام، فقال:
تقــول الضــراء لست لواحــد ولا اثنين، فانظر كيف شرك أولئكا
وأنت امرؤ تبغى أبا قد ضللته هبلت ألـم تستفق مـن ضـلالكا
وكما كان الحطيئة هجاءً شتاما.. كان أيضا بخيلا، فقد روى أنه كان يجلس فى فناء بيته، فوفد عليه رجل غريب، فلم يحسن الحطيئة استقباله، ولكن الرجل غلبه التعب ونام بجوار المنزل فقال الحطيئة:
سـلم مرتين فقلــت مهــلا كفتك المــرة الأولى الســلاما
ونقنق بطنه ودعا رءوســا لمـا قـــد نـال مـن شـبعا ونامــا
ومع ذلك فقد كان الحطيئة شاعرا مجيدا.. قوى العبارة تغريز المعانى وها هو ذا يمدح إحدى القبائل التى أكرمته وأجزلت له العطاء:
يسوسون أحلاما بعيد أناتها وإن غضبوا جاء الحفيظة والجُد
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البُنا وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وعندما تقدم به العمر.. كان ينطق شعرا يتصف بالحكمة، ومما قاله فى ذلك:
ولست أرى السعادة جمع مال ولكـن التقى هــو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخـــرا وعند الله للأتقـــى مزيــد
ولعل أطرف ما قيل عن هذا الشاعر الهجاء، أنه عندما شعر بقرب أجله أوصى أن يعلق على كفنه:
لا أحــد ألأم مــن حطـــيئة هجــا البنين وهجــــا المريئة
فقال له من كانوا حوله: يا أبا مليكة، رحمك الله أوص، فقال:
الشعر صعب وطويل سلمه إذا ارتقى فيه الـذى لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه يريد أن يعــربه فيعجمـــه
فقالوا له: هذا مثل الذى كنت فيه، فقال:
قد كنت أحيانا شديد المعتمد
وكنت إذا غرب على الخصم ألد
فوردت نفسى وما كادت ترد
فقالوا له ماذا تطلب، فقال: تحملونى على أتان (بغل) وتتركونى راكبها حتى أموت، فإن الكريم لا يموت على فراشه، والأتان مركب لم يمت عليه كريم قط، فحملوه على أتان وجعلوا يذهبون به ويجيئون عليها حتى فاضت روحه إلى بارئها!