عاجل
الجمعة 26 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي

مانديلا حضر الإيدز واستثمره

مانديلا حضر الإيدز واستثمره
مانديلا حضر الإيدز واستثمره

كتب - حمادة حسين



أمام جمهور غفير من أولئك الذين لا يقبلون أي مساس بقدسية الأسطورة، وقف القاضي الشهير " كاميرون ادوين" يلقي بمسؤولية اجتياح الإيدز لجنوب إفريقيا على نيلسون مانديلا.

غضب عارم من الجمهور وصيحات استهجان ربما تجاوزت في حق القاضي، لكنه واصل: حبي الجارف لمانديلا لن يمنعني أن أقول انه اذا افترضت انه كان أمامه أن يفعل 200 حاجة لجنوب أفريقيا، فانه فعل 199 منها لصالحها، لكن المرة الـ 200 كانت ضدها. 
 

القاضي – بشجاعة يحسد عليها - يحمل المناضل العظيم ومحرر جنوب أفريقيا من العنصرية ذنب ارتفاع عدد المصابين بالإيدز من مئات إلى 5 ملايين من جملة 45 مليونا هم كل تعداد سكان البلد، هذه الزيادة كانت خلال 4 سنوات فقط.

خطورة اتهام القاضي ليس فقط إنها تمس التاريخ النضالي الفذ لمانديلا فقط وإنما في توقيت الإعلان، ذلك إن جنوب أفريقيا كانت تحتفل باللحظة الأهم في تاريخها، لحظة حققت فيها معجزة اشد الحالمين لم يكن ليتصورها مهما كانت عظمة الأسطورة التي جسدها مانديلا، وهو ما جعل الاتهام عند الانطباع الأول يبدو حقدا من قاض يريد تخريب عظمة الإنجاز، كما إن الاتهام يفسد مرحلة الكمال التي ظن مانديلا انه وصلها بعد إن انهي فترة رئاسته الأولى بإعلانه عدم الترشح لأي منصب سياسي، وهو في قمة مجده، فوزه بفترة رئاسة ثانية كان مضمونا.

 

جوهانسبرج 1994

جنوب أفريقيا في الشوارع مبتهجة بمانديلا أول رئيس اسود في أول انتخابات ممثلة لكل الأعراق، وعندما سئل عن الشخصية التي تمني إن تشاركه وشعبه الاحتفال قال: بوبي مارلي، لكن ذلك لم يكن متاحا كون بوب مارلي رحل قبل سنوات، وكان الفريق الأمريكي " باك ستريت بويز" – ولاد الشوارع الخلفية - نجم اللحظة وبديلا لبوب مارلي في مشاركة مانديلا وشعبه بالاحتفال التاريخي.

انتهي الاحتفال والكل في حالة ترقب، هل تستطيع جنوب أفريقيا

تجاوز شهوة الانتقام التي تملكت الأغلبية السوداء 29 مليون بني ادم يمثلون 96% من السكان من 44 ملايين ابيض يمثلون 4% حكمتهم بسياسة التفرقة العنصرية – الأبارتيد - ؟

 حدث ذلك قبل قبل 50 سنة، تحديدا بعد صعود حزب البيض -للحكم، لم يكن مسموحًا للسود بالعمل إلا في أعمال محددة وضيعة، منعوا حق الانتخاب وحق الملكية، لا مساواة بينهم وبين البيض في الأجور، عزلوا في مناطق خاصة.

الأمر كان مروعا حقا، الأمم المتحدة أصدرت عدة قرارات لمقاطعة اتحاد جنوب أفريقيا، كذلك فعلت دول كثيرة، تقريبا جنوب أفريقيا كانت معزولة تماما.

بدأ مانديلا حكمه وهو مقتنع وقانع بأن جنوب أفريقيا لن تقفز إلى الأمام إلا اذا تجاوز إل 29 مليون اسود الاذلال والقهر الرهيب الذي عاشوه 50 سنة على يد 4 ملايين ابيض، وهذا لن يحدث إلا بالمسامحة والغفران بعد المحاسبة.

 

الفيلم السنيمائي – مانديلا- الذي لعب بطولته الممثل الأمريكي الكبير " مورجان فريدمان "، يجسد كيف هاجت الأغلبية السوداء وانفجرت غضبا في وجه مانديلا وهو يعرض عليهم الغفران بعد محاسبة البيض الذين اجرموا فقط، غضب كاد يعصف بهالة القداسة التي تحيطه، لكنه هتف فيهم بأنه صاحب المعاناة الأكثر بؤسا وإيلاما وانه الأحق بالانتقام، لكن لا بديل عن المصالحة، وإلا انحبست جنوب إفريقيا في دوامة عنف تأكل الأسود قبل الأبيض.

هذه هي المعجزة التي راهن عليها مانديلا، إن يصدق شعبه بأنه قادر على تجاوز ارث الفصل العنصري وتحقيق قفزة هائلة في اتجاه الإنسانية تضمن لجنوب أفريقيا إن تمثل نموذج الديمقراطية في القارة الموعودة بالعبودية، استسلم الشعب وصيغ قانون المحاسبة ومن ثم المصالحة.

بحث مانديلا عن ملهم يجعل الشعب – ابيض واسود – يصدق انه قادر على الاندماج والترفع عن الانتقام، وكان الإلهام في الرياضة، تحديا في بطولة كأس العالم للراجبى 95 التي يتابعها أكثر من مليار شخص، وبطولة أمم أفريقيا 96 ويتابعها جمهور أكثر عددا، كلتا البطولتين نظمتهما جنوب أفريقيا، وكان الإعجاز إن يفوز كلا المنتخبين بالبطولتين، إن مجرد التفكير في حدوث ذلك قمة الجنون، ذلك إن البلد نفسه كان رهين المقاطعة بالأمس.

بعد الفوز بأمم أفريقيا 96، قال " مارك فيش " - 22 سنة - مدافع منتخب «البافانا بافانا» لوكالات الإعلام، العالمية المبهورة بالإنجاز " لقد صدقنا أننا قادرون على صنع المعجزة"، المنتخبان – الراجبي وكرة القدم – لعب دور الملهم فصدق الشعب انه قادر على تجاوز ميراث العنصرية وتغيرت الصورة البشعة التي كانت عليها جنوب أفريقيا، حين كان السود يشجعون المنتخب المنافس لبلادهم في الراجبي لأن لاعبيه من البيض، وكانت الأقلية البيضاء تشجع المنتخب المنافس لبلدهم في كرة القدم لأن أغلبيه لاعبيه سود.

لكن كان العرض الجانبي للمعجزة التي حققتها جنوب أفريقيا باقتدار مذهل هو توحش الإيدز في البلاد وتمكنه من جسد 5 ملايين جنوب أفريقي، الأمم المتحدة أقرت إن المرض أودى بحياة حوالي 2.1 مليون شخص من بينهم 330 ألف طفل، أكثر من ثلاثة أرباع هذه الوفيات حدثت في أفريقيا.

القاضي " كاميرون ادوين" علق ذنب الـ 5 ملايين مصاب بالإيدز في رقبة مانديلا، لأنه بكل ما له من هالة وتقدير وشعبية لو كان تبني مكافحة المرض في برنامجه الانتخابي لانتهت فترة حكمه وجنوب أفريقيا خالية من الإيدز، لكنه رفض رغم مناشدات المقربون منه بأن يفعل.

 

كيب تاون 2003

مانديلا برر رفضه بأنه تحرج من إدراج المشكلة في برنامجه الانتخابي لعلمه مدى حساسية الشعب من الحديث عن أي شئ يتعلق بمشاكل ذكورية، واعتذر عن ذلك، وأكد اعتذاره بالاعتراف إن 3 من عائلته مصابون بالمرض منذ سنوات، وبسرعة سيستغل هذا الخطأ الفادح ليعيد البريق إلى أسطورته التي اوشك الاعتزال والصمت إن يطفئها، اطلق حملة دولية تدفع الحكومات على إعلان حالة طوارئ عالمية لمكافحة الإيدز، منح الحملة رقمه وهو سجين العنصرية 46664 وبدأ في تجييش  القوة الناعمة لصالح الحملة، انضم لها النجوم "يو 2"،" فيل كولنز "، الموسيقي بيتر جابريل مؤلف الموسيقي التصويرية لفيلم العشاء الأخير للمسيح، اوبرا وينفري، سيدني بواتية، وكانت المطربة " بيونسية " هي المتحدثة الرسمية باسم الحملة.

 

مانديلا – 85 سنة – يسرق الأضواء من الجميع وهو ينضم إلى 40 الف شخص من كل الأجناس ازدحم بهم ستاد "جرين بوينت " في مدينة كيب تاون قبلة السياح في جنوب أفريقيا في الحفل الذي يحييه نجم البوب وصاحب الشعبية الكبيرة في أفريقيا "بوب جيلدوف" الذي سبق ونظم حفلا موسيقيا ناجحا في لندن في الثمانينات لصالح ضحايا المجاعة في أثيوبيا، ويعد من أقوي المكافحين ضد الإيدز.

الحفل الذي جذب أكثر من ملياري مشاهد، بثه تلفزيون جنوب أفريقيا وموقع الحملة على الأنترنت وقناة الموسيقى العالمية " ام تي في" على الهواء مباشرة.

بوب جيلدوف قال: الإيدز لم يعد شيئا يخجل منه المرء، انه مجرد حالة مرضية.

فيما قال مانديلا الذي بات مصنفا أحد كبار الناشطين ضد الإيدز في العالم: الإيدز خطر على الإنسانية لكنه سيهزم مثلما هزم الفصل العنصري، الجنوب أفريقيين خاضوا صراعا نبيلا ضد شرور الفصل العنصري، واليوم نواجه تحديا أشد يهدد مستقبلنا على نطاق غير متوقع.

مانديلا كفر عن ذنبه، فحملته ادخل مرضي الإيدز حيز الشفقة والعطف بعد إن كان مرادفا النبذ والاحتقار العام.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز