
احمد زيدان يكتب : نحو مجتمع قارئ (1)

قبل أربعة عشر قرناً ونيف أشرقت شمس واحدة من أسمى الحضارات التي عرفتها الإنسانية، فهناك في أعالي قمة جبل النور شرق مكة المكرمة حيث غار حراء، كانت البداية إيذاناً بميلاد فجر جديد، حينما صافح الوحي الإلهي قلب النبي المصطفى محمد "صلى الله عليه وسلم" بأول آية في كتاب الله "إقرأ" ليبدأ التاريخ حلقة جديدة من حلقاته يكون فيها المجتمع الإسلامي هو الطرف الأقوى والأعلي، فقد كان مرتكز حضارته القراءة والمعرفة، حضارة تأسست على قيم الفكر والعلم والنظر وإعمال العقل والوعي منذ لحظة انطلاقتها، ولعل أول ما نزل من آيات الكتاب الحكيم توجيه لهذه الأمة للأخذ بأسباب العلم والرقي عن طريق القراءة، فالإسلام دين علم ومعرفة وسلام يبحث عن الحق ويدعو إلى الإبداع والتقدم والأخذ بأسباب الرقي المادي وبناء الحضارة، فما من أمة قرأت إلا وملكت زمام القيادة، وهو ما صوره الأديب مصطفى صادق الرافعي في أبياته الخالدة :
" ودولةُ السّيف لا تقوى دعامتها * * * ما لم تكنْ حالَفَتْها دولةُ الكتب "
فالكتب مستودع خلاصة التجربة الإنسانية والإبداع البشري ولا مجال للتطور والتقدم إلا بمطالعة تلك التجارب الإنسانية والاستفادة منها ولا يكون ذلك إلا من خلال القراءة والاطلاع، فالقراءة هي عين المعرفة وهي المحرك الأساسي للإبداع والابتكار
وليس هناك من وصف للقراءة والكتاب أجمل من وصف الجاحظ حينما قال " الكتاب نعم الذخر والعقدة، والجليس والعمدة، ونعم النشرة ونعم النزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل والزميل، ونعم الوزير والنزيل. والكتاب وعاء ملئ علماً، ، يجمع من السير العجيبة، والعلوم الغريبة، وآثار العقول الصحيحة ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الحكم الرفيعة، والمذاهب القديمة، والتجارب الحكيمة والأخبار عن القرون الماضية، والبلاد النازحة، والأمثال السائرة والأمم البائدة، والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بيانك، وفخم ألفاظك، وبجح نفسك، وعمر صدرك، ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك، وهو المعلم إن افتقرت إليه لا يحقرك، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة"
وقد سئل فولتير مرة عمن سيقود الجنس البشري في هذا العالم فقال "أولئك الذين يعرفون كيف يقرؤون"
و يستشهد الشاعر العربي الكبير "عيسى اسكندر معلوف" المولود عام 1869 م بقول ماركوس شيشرون "106 ق. م." الذي اقترن اسمه بالفصاحة والبيان في عصر الإمبراطورية الرومانية بقوله :
قال شيشرونَ قولاً حبذا القول الفصيحْ
إن بيتاً بلا كتبٍ جسدٌ من غير روحْ
واليوم يعيش مجتمعنا أزمة ثقافية ليست وليدة اليوم ولكنها تراكمات سنوات طوال من التجريف الفكري للعقل المصري خاصة والعربي عامة بسبب سياسات التعليم البائدة التي لا نزال نعيش في رحابها والتي أتت على الأخضر واليابس وأضحينا نجني ثمارها المرة بين الفقر والجهل والتعصب وغياب القدوة والبعد عن القيم والأخلاق والقائمة تطول.
لقد أصابت أزمة الثقافة والعزوف عن القراءة مختلف جوانب حياتنا التعليمية والاجتماعية والدينية، وألقت على عاتقنا مسئولية انتشال مجتمعنا من تلك الأوضاع المتردية التي يعيشها والتي أبدع في وصفها محمد عدنان سالم بقوله "مجتمع عازف عن القراءة، يتحدث بلغة بطنه، وشهوة جسده، وأدوات لهوه، ووسائل عبثه، وسلع استهلاكه، فتلك قيعان مجدبة، لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، بل هي مقبرة لدفن الملكات، تغص بالأموات".
لقد أضحى من أهم واجباتنا اليوم العمل على خلق جيل قارئ مبدع يناقش ويحاور، يعرض فكره بوعي ويطرح حلولاً لمشاكل مجتمعه من منطلق شعوره بالمسؤولية، لديه القدرة على البحث والنقد والتحليل والتعلم الذاتي واستيعاب الآخر وفكره، وخلق معارف جديدة.
المشهد الثقافي العربي بلغة الأرقام
يجد الكثير من الناس لغة الأرقام لغة معقدة ذلك لأنها جافة وقد تكون صادمة في بعض الأحيان فهي لا تعترف بجماليات اللغة أو استعاراتها.
ولكن الاشكالية الأكبر ليست في ذاتية الأرقام بل في فهمها ووضعها في إطارها الحقيقي والتعمق في مدلولاتها.
بداية فإن التقارير والإحصائيات الدولية والمحلية تشير إلى صورة شديدة القتامة للمشهد الثقافي في مجتمعنا، ولعل من أبرز ملامحها ضعف الإقبال على المكتبات، والعزوف عن القراءة، وسطحية الفكر وضبابية المعرفة وضعف الوعي وهواية سفاسف الأمور.
ووفقا للمعايير الدولية فإن لكل 6 آلاف فرد مكتبة عامة من هذا المنطلق وبمقارنة بسيطة بين واقع عينة من الدول العربية بنظيراتها الغربية نجد أن في الولايات المتحدة الأمريكية لكل 18.611 فرد مكتبة وفي بريطانيا لكل 13.725 فرد مكتبة وفي النرويج لكل 5.945 فرد مكتبة أما كندا فلكل 17.500 فرد مكتبة وفي الدول العربية نجد في تونس لكل 26.829 فرد مكتبة وفي مصر لكل 70.833 فرد مكتبة وفي السعودية لكل 336.842 وبشكل عام ففي العالم العربي لكل 75.556 فرد مكتبة (النسب المذكورة نسب تقريبية)
لغة الأرقام تكشف مدى الفوارق في تعداد المكتبات في العالم العربي بالمقارنة مع نظيراتها في الغرب ولو تطرقنا لتجهيزات المكتبات العربية سيكون الوضع والأرقام كارثية.
انعكس تجاهل غالبية الحكومات العربية للحركة الثقافية وأثر المكتبة والقراءة في التنمية المستدامة على وعي أفراد المجتمع العربي بما يدور حوله من أحداث وتحولات، وما يؤكد ذلك ما أوردته تقارير التنمية البشرية التي تشير إلى أن الفرد العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق في السنة وفي مصر كمثال لهذه المعانة فإن 88 % من الأسر المصرية لا تقرأ أي كتب أما تونس فإن من بين كل 4 أفراد فإن 3 أفراد لا تطأ أقدامهم أي مكتبة وفي المغرب وفي احصاءات رسمية أبرزت ان نسبة القراءة لا تتعدى نسبة 1.5 %. ويبلغ معدل القراءة للفرد العربي ربع صفحة سنوياً مقارنة مع 11 كتاباً في أمريكا و7 كتب في بريطانيا حسب دراسة للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، أما الفرد الغربي يقرأ بمعدل 12 ألف دقيقة في السنة الواحدة.
كما أن ما ينشر من عناوين جديدة سنوياً في العالم العربي تقريبا 1700 عنوان وهذا الرقم يعد صادماً ويعكس أبعاد أزمة الثقافة العربية.
أما بالنسبة للبحث العلمي فإن العالم العربي يحتل أدنى مرتبة على مستوى العالم في الإنفاق على البحث العلمي حيث ينفق أقل من ثلث بالمائة من إجمالي الدخل القومي، في حين تمثلت أولويات أغلب الحكومات العربية في الانفاق على التسليح.