"ذنب",. غراميات المنفى ونهر الحنين
03:43 م - الجمعة 22 أغسطس 2014
كتب - عبد الجواد محمود
يقدم الكاتب والروائي د. ياسر ثابت في روايته الجديدة "ذنب"، عملاً إبداعيـًا يغوص في عالم المرأة من جهة، ويتناول من جهة أخرى تجربة الهجرة والبعاد، بحثـًا عن حقيقة الحُبِّ وجوهر السعادة في فراديس بعيدة، إن لم تكن مفقودة.
تكشف الرواية الصادرة عن دار اكتب في القاهرة عن موهبة وجرأة تتجاوز المألوف على أكثر من صعيد، سواء في التفاصيل التي تشكل جسد النص السرديّ، بل وأيضـًا على مستوى اللغة المستخدمة، والمفردات والعبارات التي تشكّل هذه اللغة، فتصعد إلى الشعر حينـًا، وتجرب مستوياتٍ أخرى للحكي والحوار، بكل ما يعنيه ذلك من تنوّع واختلاف يلائمان المناخات المتعددة التي يرسمها الروائي.
تبدأ الرواية على متن طائرة متجهة إلى الولايات المتحدة، في رحلة أقرب إلى استكشاف المجهول، وتنتهي على سرير مستشفى؛ حيث يصغر العالم ربما أكثر من اللازم.
وما بين البداية والنهاية، تجري مياه ورياحٌ وحوادث كثيرة، تشكّل مادة هذه الرواية، التي تتناول، بالتفاصيل الدقيقة، حيوات مجموعة من الشخصيات وعلاقاتهم وعذاباتهم، وما تنطوي عليه من توق الروح إلى الحرية، وشبق الجسد وملذّاته.
رواية تحمل الكثير من الأسئلة، وتقدم إجابات مختلفة عن سؤال الهوية الشرقية حين تندمج في مجتمع غربي، قبل أن نكتشف أن غربة الوطن وغربة المنفى/ المَهجر، غربتين تختلفان في الشكل والصورة، وتلتقيان في خلق الغربة الكبرى، الحياتية والوطنية والوجودية للإنسان.
عبر صفحات الرواية، نكتشف أن استبدال وطن يحتاج إلى روح مغامرة، متمردة، تجهز على حنين الروح مرة واحدة وإلى الأبد. ومع ذلك فالحنين يظهر في صور كثيرة، منها الأغاني، والأفلام، والصور الساكنة في العقل والقلب، والرسائل التي تقطر رقة وعذوبة، والمكالمات الهاتفية مع الذين تفصلنا عنهم مسافاتٌ بعيدة، لكنهم دومـًا في البال.
تخوض بطلتا الرواية، سارة وفرح، مغامرات يقدّمها الكاتب/ السارد بأساليب سرد تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة، فتتمازج الحياة مع الموت، والبؤس مع الجنون والبحث عن الملذّات، وتستغرقهما التنقّلات والترحال في مدن العالم، مع انطباعاتٍ عما ترى العين ويشعر به القلب.
لحظة الوصول إلى "العالم الجديد" فارقة عند الشخصيتين الرئيسيتين. تقول فرح: "حين هبطت الطائرة في مطار هيثرو، أخذت أنظر حولي مثل طفلة ضائعة. هذا هو العالم الجديد الذي ينتظرني، أنا الهاربة بأحلام طيشي".
أما سارة فتحكي عن وصولها إلى نيوجيرزي قائلة:
" كم يختلف هذا المطار عن المطارات التي تركتُها في بلادٍ مُتعَبةٍ جراء ظروف الفقر أو الحرب!
لم أكن مُثقلة بمثل هذا التعب من قبل.
رغم ذلك الوجع المؤلم حد الخدر، تبقى هناك مساحة للأمل.
أقف في الطابور قابضة على جمرة خضراء اللون اسمها جواز سفري. ربما كانت المرة الأولى التي أنتبه فيها إلى حجم جواز السفر المصري مقارنة بجوازات سفر الدول الأخرى. لا تخطئ العين تمييز جواز السفر المصري بحجمه الذي يتجاوز راحة اليد.
موظف الجوازات لم ينطق حرفـًا رغم تحية المساء التي ألقيتها عليه، لا يهم، كلّ موظّفي الجوازات هكذا".
الانكسارات الإنسانية حاضرة في التجربتين. تقول سارة: "كانت أُمِّي تنزعج حين أُسقِط آنية؛ تظل تتساءل: ما بال يدكِ الرخوة؟ ويشهد هذا السقوط أخي حسان والجارة اعتماد، التي لا تكاد تبرح منزلنا. لكنّ أحدًا لم يلتفت البارحة لتهشم قلبي. كنتُ وحيدة، حتى من لوم الآخرين. لا عِطْرَ في زُجَاجة القلبِ التي سقَطَتْ علَى الأرْض. لا أحد، وأنا التي كنتُ أحسبُ أن قلبي فندقٌ مزدحم".
في تجربة موازية نجد سارة تحكي قائلة:
" الحزن جلادٌ بشع.. يضع إمضاء سياطه على ذاكرتنا وقلوبنا. ينسحب حُبّه من دمي. ينسلّ كإبرة بخيط.. يؤلمني. أتكورُ على نفسي في السریر كطفل أخطأ وینتظر العقاب. أجمعُ ما مات منِّي، كأنني إثمٌ حاصره تأنيب الضمير. حزينة مثل وردة اقتُلِعَت من بستان؛ تظن أن حديقةً أخرى في انتظارها، لكن مصيرها السيئ هو آنية زهور بلون محايد، وماء لا يعني لها شيئـًا".
تجوب البطلتان الرئيسيتان مدنـًا وعوالم متناقضة ومختلفة، وتعيشان تجربة الاغتراب في مستويات متفاوتة ومختلفة الشكل والمضمون، قبل أن تلتقي مصائرهما عند نقطة النهاية. في مرآة العمل الروائي، قد يفاجأ القارئ بأن هاتين السيدتين رغم اختلافاتهما الكثيرة، هما في نهاية الأمر وجهان لامرأةٍ واحدة تبحث عن ذاتها وتعيد اكتشاف مشاعرها.
تتناوب البطلتان على فصول الرواية، التي يربط بينها تسلسل زمكاني منطقي مع استعمال متقن لتقنية "الفلاش باك". وتخضع تركيبة البنية الروائية عند ياسر ثابت لمقاربات تاريخية ومقارنات متماثلة في وضعيتين بين موقف وموقف ولقطة وشبيهتها، مما خلق حالة متماسكة من الحبكة القصصية.
يقبض الروائي هنا على جمر التفاصيل بذكاء وأسلوب سردي ممتع.
ومن ذلك:
" في الضحى، أصعد السلم الخشبي ممسكـة بطرف جلباب جدتي فاطمة إلى سطح الطابق الثالث من البيت. جدتي عجوز قوية الشكيمة، بدينة، راسخة البنيان. جلبابها الواسع، القديم، يوحي بأنه لم يفارق جسمها طوال أعوام. تعصب رأسها بمنديل، فوقه طرحة. ملابسها كلها سوداء. تملأ فمها بالدعاء وبالشتائم، على حد سواء".
ونطالع أيضـًا:
" لا تنتمي رولا لصخب الثدييّات. هي قماشة أخرى؛ قماشة قاومتْ تسرب العفن. تمتلك حاجبين فيهما كبرياء. كاذبٌ من قال إن شعرها المسترسل أسود أو بني.. هو بين الفرضيتين، لا يُريح الفضول. بالرغم من أنها جميلة، ودقيقة، وجادة، ومكافحة، فإن أمانيها المشروعة، بأشواقها العذبة، تهشمت، المرة تلو المرة، على صخرة الواقع القاسية، مما بدد الإشراق في عينيها. غلالة الكدر الزاحفة على عينيها، غالبـًا، تنسحب أمام لمعة تحدٍ تبرق في نظرتها، معبرة عن عزيمة نابضة بالحياة".
يبدو ياسر ثابت قادرًا على تكوين لغة مرسلة مفعمة، حتى في إشاراته المبعثرة على شاشات الإنترنت وموقعي تويتر وفيسبوك وصولاً إلى سكايب. يجيد الروائي رسم شخصيات روايته بتفاصيل مدهشة، وبخاصة مشاعر الحزن والفقد والحنين، وانعكاس الصدمات والأزمات الشخصية والعامة على علاقة بطلتي "ذنب" بأفراد العائلة وبالآخرين، كما تتناول الرواية المعضلات التي تواجهها المرأة المعاصرة في عملها.
تقول سارة عن عملها كطبيبة أورام:
"تزورني مريضة تعمل في سوق الأوراق المالية. جميلة ومتأنقة. تضع المكياج بدقة، وتدخن بمعدل 30 سيجارة يوميـًا. أخذتْ تلعب في وجنتها بظفر مطليّ بالأحمر، مقشرة بشرة وهمية عنها، وهي تسأل عن مصير شعرها بعد العلاج. أنظر في صور الأشعة إلى الورم الذي يحيط بالرئة اليسرى، وأقرر عدم الإجابة".
أما فرح فتروي عن عملها في الصحافة قائلة:
"أمام مقر المجلة، هناك عيون دائمـًا مرتابة تنتظرك في الخارج، كي تتفحصك وتراقب خطواتك وأنت تتدثر بمعطفك تحت جنح الظلام. جُلُّ هؤلاء جاؤوا من بلاد الضاد، محملين بإرث الفضول الذي يدوس ببجاحة على قدم النميمة كي تشاركه وليمة الثرثرة".
هناك شجنٌ نبيل واستدعاء للذكريات. ذكرى طاولات وغرف وشوارع، وأطياف حُبٍّ ضائع، أو قديم علاه الغبار. كما يكتب ياسر ثابت عن الحرية المقموعة، والحُبِّ الفاشل والمطعون بالجنس المعطوب، والفساد والفقر، وضغوط العمل وعلاقاته.
تنبهك الرواية إلى أحوال بطلتيها، ومعاناتهما التي تنزف مرة بعد أخرى، حتى صارت الأحزان طقسـًا وقشعريرة. هنا تستعاد أغنيات قديمة ومشاعر نائمة في ركن منزوٍ من غرف القلب، وأوراق خاصة تحتفظ بالتفاصيل الأنثوية المدهشة.
مع ارتباك البطلتين عاطفيـًا وجسديـًا، يلمس القارئ محاولة لفهم جذور العلاقات الإنسانية المتشابكة والمعقدة مع "الآخر"، في حين تتحرك أحداث النص الروائي من البداية إلى النهاية على خيط رهيف يشدّها كلها نحو حكاية كبيرة موزعة على اختلاف مشاهدها.
للزمن حضورٌ كثيف في مسار الرواية. زمن متوتّر ومشدود بمشاعر عارمة حينـًا وعواطف مكتومة في أحيان أخرى، وزمن حاشد بالانتظار والكوابيس والأمل.
ورغم أن "ذنب" تثير قضية وعي الإنسان بالعالم من طفولته إلى شيخوخته، فإنها تفضي إلى التسليم بأنه في ظل ضياع بوصلة مشاعر المرء قد يحدث خلل في الوقت وخلل في الأمكنة.
تتخذ "ذنب" مسار الرحلة، وقد أكسبها هذا المسار ملمحـًا تشويقيـًا، تعزز باحتضان الرواية لخطابات أخرى منها ما هو شائق في ذاته، ومنها ما يستمد تشويقه من خلال اندماجه مع العناصر الأخرى. فقد أَسلمت الكاتبة مشعل السرد لراويتين، بما يشير إلى استفادة الروائي من تقنية تعدد الرواة لإثراء النص الإبداعي.
تبدو الرسائل والتعليقات الإلكترونية في الرواية تكأة سردية بامتياز، تتوسل الاستذكار، لكنها تتجنب الوقوع في غرام الحكي بفوائض الكلام. الشاهد أن النص الروائي يتضمن مقاطع أوشذرات شبيهة بتغريدات تبدو قائمة بذاتها، وهي جمل وعبارات قصيرة محكمة الصياغة تثير العقل ليتأملها، والوجدان ليتذوقها: أحيانـًا بالصورة وأحيانـًا بالهندسة، وأحيانـًا باللغة المركبة.
تصف سارة زوجها قائلة: "مشرطُ الجرّاح الذي يتعامل به مع مرضاه في غرفة الجراحة، يبقى في عقله خارجها. كان هذا سببـًا في بعض خلافاتنا، التي تجاوزتُ عنها طويلاً. تلك المشارط الناعمة قد تجرحُ الحياة نفسها"، في حين تقول فرح: "في قريتنا، الأرض حُبلى بالتعب، والفأس سليل أحزان كثيرة". وفي الحالتين نقرأ عبارة "بحرٌ في فمي، وأنا أرى غرقي الأكيد".
ولأننا نكبر، من دون أن نحس بالزمن، لكننا نراه على أجساد غيرنا، فإن الحكايات والوقائع والتجارب الإنسانية تتكثف في مواضع مختلفة من الرواية وتواريخها المتلاحقة، حتى تكون النهاية بين السيدتين، كما لو أنها لقاءٌ قدري، بين امرأتين وتجربتين مختلفتين رغم كل أوجه التشابه بينهما.
من الأعمال الإبداعية الأخرى للمؤلف ياسر ثابت، نذكر: "أيامنا المنسيـّة"، "مراودة"، "تحت معطف الغرام"، "يوميات ساحر متقاعد"، "فضة الدهشة"، "لحظات تويتر".
يقدم الكاتب والروائي د. ياسر ثابت في روايته الجديدة "ذنب"، عملاً إبداعيـًا يغوص في عالم المرأة من جهة، ويتناول من جهة أخرى تجربة الهجرة والبعاد، بحثـًا عن حقيقة الحُبِّ وجوهر السعادة في فراديس بعيدة، إن لم تكن مفقودة.
تكشف الرواية الصادرة عن دار اكتب في القاهرة عن موهبة وجرأة تتجاوز المألوف على أكثر من صعيد، سواء في التفاصيل التي تشكل جسد النص السرديّ، بل وأيضـًا على مستوى اللغة المستخدمة، والمفردات والعبارات التي تشكّل هذه اللغة، فتصعد إلى الشعر حينـًا، وتجرب مستوياتٍ أخرى للحكي والحوار، بكل ما يعنيه ذلك من تنوّع واختلاف يلائمان المناخات المتعددة التي يرسمها الروائي.
تبدأ الرواية على متن طائرة متجهة إلى الولايات المتحدة، في رحلة أقرب إلى استكشاف المجهول، وتنتهي على سرير مستشفى؛ حيث يصغر العالم ربما أكثر من اللازم.
وما بين البداية والنهاية، تجري مياه ورياحٌ وحوادث كثيرة، تشكّل مادة هذه الرواية، التي تتناول، بالتفاصيل الدقيقة، حيوات مجموعة من الشخصيات وعلاقاتهم وعذاباتهم، وما تنطوي عليه من توق الروح إلى الحرية، وشبق الجسد وملذّاته.
رواية تحمل الكثير من الأسئلة، وتقدم إجابات مختلفة عن سؤال الهوية الشرقية حين تندمج في مجتمع غربي، قبل أن نكتشف أن غربة الوطن وغربة المنفى/ المَهجر، غربتين تختلفان في الشكل والصورة، وتلتقيان في خلق الغربة الكبرى، الحياتية والوطنية والوجودية للإنسان.
عبر صفحات الرواية، نكتشف أن استبدال وطن يحتاج إلى روح مغامرة، متمردة، تجهز على حنين الروح مرة واحدة وإلى الأبد. ومع ذلك فالحنين يظهر في صور كثيرة، منها الأغاني، والأفلام، والصور الساكنة في العقل والقلب، والرسائل التي تقطر رقة وعذوبة، والمكالمات الهاتفية مع الذين تفصلنا عنهم مسافاتٌ بعيدة، لكنهم دومـًا في البال.
تخوض بطلتا الرواية، سارة وفرح، مغامرات يقدّمها الكاتب/ السارد بأساليب سرد تتداخل فيها الأزمنة والأمكنة، فتتمازج الحياة مع الموت، والبؤس مع الجنون والبحث عن الملذّات، وتستغرقهما التنقّلات والترحال في مدن العالم، مع انطباعاتٍ عما ترى العين ويشعر به القلب.
لحظة الوصول إلى "العالم الجديد" فارقة عند الشخصيتين الرئيسيتين. تقول فرح: "حين هبطت الطائرة في مطار هيثرو، أخذت أنظر حولي مثل طفلة ضائعة. هذا هو العالم الجديد الذي ينتظرني، أنا الهاربة بأحلام طيشي".
أما سارة فتحكي عن وصولها إلى نيوجيرزي قائلة:
" كم يختلف هذا المطار عن المطارات التي تركتُها في بلادٍ مُتعَبةٍ جراء ظروف الفقر أو الحرب!
لم أكن مُثقلة بمثل هذا التعب من قبل.
رغم ذلك الوجع المؤلم حد الخدر، تبقى هناك مساحة للأمل.
أقف في الطابور قابضة على جمرة خضراء اللون اسمها جواز سفري. ربما كانت المرة الأولى التي أنتبه فيها إلى حجم جواز السفر المصري مقارنة بجوازات سفر الدول الأخرى. لا تخطئ العين تمييز جواز السفر المصري بحجمه الذي يتجاوز راحة اليد.
موظف الجوازات لم ينطق حرفـًا رغم تحية المساء التي ألقيتها عليه، لا يهم، كلّ موظّفي الجوازات هكذا".
الانكسارات الإنسانية حاضرة في التجربتين. تقول سارة: "كانت أُمِّي تنزعج حين أُسقِط آنية؛ تظل تتساءل: ما بال يدكِ الرخوة؟ ويشهد هذا السقوط أخي حسان والجارة اعتماد، التي لا تكاد تبرح منزلنا. لكنّ أحدًا لم يلتفت البارحة لتهشم قلبي. كنتُ وحيدة، حتى من لوم الآخرين. لا عِطْرَ في زُجَاجة القلبِ التي سقَطَتْ علَى الأرْض. لا أحد، وأنا التي كنتُ أحسبُ أن قلبي فندقٌ مزدحم".
في تجربة موازية نجد سارة تحكي قائلة:
" الحزن جلادٌ بشع.. يضع إمضاء سياطه على ذاكرتنا وقلوبنا. ينسحب حُبّه من دمي. ينسلّ كإبرة بخيط.. يؤلمني. أتكورُ على نفسي في السریر كطفل أخطأ وینتظر العقاب. أجمعُ ما مات منِّي، كأنني إثمٌ حاصره تأنيب الضمير. حزينة مثل وردة اقتُلِعَت من بستان؛ تظن أن حديقةً أخرى في انتظارها، لكن مصيرها السيئ هو آنية زهور بلون محايد، وماء لا يعني لها شيئـًا".
تجوب البطلتان الرئيسيتان مدنـًا وعوالم متناقضة ومختلفة، وتعيشان تجربة الاغتراب في مستويات متفاوتة ومختلفة الشكل والمضمون، قبل أن تلتقي مصائرهما عند نقطة النهاية. في مرآة العمل الروائي، قد يفاجأ القارئ بأن هاتين السيدتين رغم اختلافاتهما الكثيرة، هما في نهاية الأمر وجهان لامرأةٍ واحدة تبحث عن ذاتها وتعيد اكتشاف مشاعرها.
تتناوب البطلتان على فصول الرواية، التي يربط بينها تسلسل زمكاني منطقي مع استعمال متقن لتقنية "الفلاش باك". وتخضع تركيبة البنية الروائية عند ياسر ثابت لمقاربات تاريخية ومقارنات متماثلة في وضعيتين بين موقف وموقف ولقطة وشبيهتها، مما خلق حالة متماسكة من الحبكة القصصية.
يقبض الروائي هنا على جمر التفاصيل بذكاء وأسلوب سردي ممتع.
ومن ذلك:
" في الضحى، أصعد السلم الخشبي ممسكـة بطرف جلباب جدتي فاطمة إلى سطح الطابق الثالث من البيت. جدتي عجوز قوية الشكيمة، بدينة، راسخة البنيان. جلبابها الواسع، القديم، يوحي بأنه لم يفارق جسمها طوال أعوام. تعصب رأسها بمنديل، فوقه طرحة. ملابسها كلها سوداء. تملأ فمها بالدعاء وبالشتائم، على حد سواء".
ونطالع أيضـًا:
" لا تنتمي رولا لصخب الثدييّات. هي قماشة أخرى؛ قماشة قاومتْ تسرب العفن. تمتلك حاجبين فيهما كبرياء. كاذبٌ من قال إن شعرها المسترسل أسود أو بني.. هو بين الفرضيتين، لا يُريح الفضول. بالرغم من أنها جميلة، ودقيقة، وجادة، ومكافحة، فإن أمانيها المشروعة، بأشواقها العذبة، تهشمت، المرة تلو المرة، على صخرة الواقع القاسية، مما بدد الإشراق في عينيها. غلالة الكدر الزاحفة على عينيها، غالبـًا، تنسحب أمام لمعة تحدٍ تبرق في نظرتها، معبرة عن عزيمة نابضة بالحياة".
يبدو ياسر ثابت قادرًا على تكوين لغة مرسلة مفعمة، حتى في إشاراته المبعثرة على شاشات الإنترنت وموقعي تويتر وفيسبوك وصولاً إلى سكايب. يجيد الروائي رسم شخصيات روايته بتفاصيل مدهشة، وبخاصة مشاعر الحزن والفقد والحنين، وانعكاس الصدمات والأزمات الشخصية والعامة على علاقة بطلتي "ذنب" بأفراد العائلة وبالآخرين، كما تتناول الرواية المعضلات التي تواجهها المرأة المعاصرة في عملها.
تقول سارة عن عملها كطبيبة أورام:
"تزورني مريضة تعمل في سوق الأوراق المالية. جميلة ومتأنقة. تضع المكياج بدقة، وتدخن بمعدل 30 سيجارة يوميـًا. أخذتْ تلعب في وجنتها بظفر مطليّ بالأحمر، مقشرة بشرة وهمية عنها، وهي تسأل عن مصير شعرها بعد العلاج. أنظر في صور الأشعة إلى الورم الذي يحيط بالرئة اليسرى، وأقرر عدم الإجابة".
أما فرح فتروي عن عملها في الصحافة قائلة:
"أمام مقر المجلة، هناك عيون دائمـًا مرتابة تنتظرك في الخارج، كي تتفحصك وتراقب خطواتك وأنت تتدثر بمعطفك تحت جنح الظلام. جُلُّ هؤلاء جاؤوا من بلاد الضاد، محملين بإرث الفضول الذي يدوس ببجاحة على قدم النميمة كي تشاركه وليمة الثرثرة".
هناك شجنٌ نبيل واستدعاء للذكريات. ذكرى طاولات وغرف وشوارع، وأطياف حُبٍّ ضائع، أو قديم علاه الغبار. كما يكتب ياسر ثابت عن الحرية المقموعة، والحُبِّ الفاشل والمطعون بالجنس المعطوب، والفساد والفقر، وضغوط العمل وعلاقاته.
تنبهك الرواية إلى أحوال بطلتيها، ومعاناتهما التي تنزف مرة بعد أخرى، حتى صارت الأحزان طقسـًا وقشعريرة. هنا تستعاد أغنيات قديمة ومشاعر نائمة في ركن منزوٍ من غرف القلب، وأوراق خاصة تحتفظ بالتفاصيل الأنثوية المدهشة.
مع ارتباك البطلتين عاطفيـًا وجسديـًا، يلمس القارئ محاولة لفهم جذور العلاقات الإنسانية المتشابكة والمعقدة مع "الآخر"، في حين تتحرك أحداث النص الروائي من البداية إلى النهاية على خيط رهيف يشدّها كلها نحو حكاية كبيرة موزعة على اختلاف مشاهدها.
للزمن حضورٌ كثيف في مسار الرواية. زمن متوتّر ومشدود بمشاعر عارمة حينـًا وعواطف مكتومة في أحيان أخرى، وزمن حاشد بالانتظار والكوابيس والأمل.
ورغم أن "ذنب" تثير قضية وعي الإنسان بالعالم من طفولته إلى شيخوخته، فإنها تفضي إلى التسليم بأنه في ظل ضياع بوصلة مشاعر المرء قد يحدث خلل في الوقت وخلل في الأمكنة.
تتخذ "ذنب" مسار الرحلة، وقد أكسبها هذا المسار ملمحـًا تشويقيـًا، تعزز باحتضان الرواية لخطابات أخرى منها ما هو شائق في ذاته، ومنها ما يستمد تشويقه من خلال اندماجه مع العناصر الأخرى. فقد أَسلمت الكاتبة مشعل السرد لراويتين، بما يشير إلى استفادة الروائي من تقنية تعدد الرواة لإثراء النص الإبداعي.
تبدو الرسائل والتعليقات الإلكترونية في الرواية تكأة سردية بامتياز، تتوسل الاستذكار، لكنها تتجنب الوقوع في غرام الحكي بفوائض الكلام. الشاهد أن النص الروائي يتضمن مقاطع أوشذرات شبيهة بتغريدات تبدو قائمة بذاتها، وهي جمل وعبارات قصيرة محكمة الصياغة تثير العقل ليتأملها، والوجدان ليتذوقها: أحيانـًا بالصورة وأحيانـًا بالهندسة، وأحيانـًا باللغة المركبة.
تصف سارة زوجها قائلة: "مشرطُ الجرّاح الذي يتعامل به مع مرضاه في غرفة الجراحة، يبقى في عقله خارجها. كان هذا سببـًا في بعض خلافاتنا، التي تجاوزتُ عنها طويلاً. تلك المشارط الناعمة قد تجرحُ الحياة نفسها"، في حين تقول فرح: "في قريتنا، الأرض حُبلى بالتعب، والفأس سليل أحزان كثيرة". وفي الحالتين نقرأ عبارة "بحرٌ في فمي، وأنا أرى غرقي الأكيد".
ولأننا نكبر، من دون أن نحس بالزمن، لكننا نراه على أجساد غيرنا، فإن الحكايات والوقائع والتجارب الإنسانية تتكثف في مواضع مختلفة من الرواية وتواريخها المتلاحقة، حتى تكون النهاية بين السيدتين، كما لو أنها لقاءٌ قدري، بين امرأتين وتجربتين مختلفتين رغم كل أوجه التشابه بينهما.
من الأعمال الإبداعية الأخرى للمؤلف ياسر ثابت، نذكر: "أيامنا المنسيـّة"، "مراودة"، "تحت معطف الغرام"، "يوميات ساحر متقاعد"، "فضة الدهشة"، "لحظات تويتر".
تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز