عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
انقراض العرب"1"

انقراض العرب"1"

بقلم : أسامة إفراح

"الذي نراه هو انهيار أساسي للقانون الدولي، نحن نرى انهيارا للاتفاقيات التي تلت الحرب العالمية الثانية، نرى أيضا انهيارا في الحدود التي تم ترسيمها في معاهدات فيرساي وسايكس بيكو، ويمكنني القول بأن سوريا لم تعد موجودة والعراق لم يعد موجودا ولن يعود كلاهما أبدا، ولبنان يفقد الترابط وليبيا ذهبت منذ مدة".. هي كلمات مايكل هايدن، الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية، في مقابلة مع CNN منذ قرابة الأسبوعين.



ليست هذه المرة الأولى التي نسمع فيها حديثا عن انهيار النظام الإقليمي العربي، الذي يرى البعض بأن المشروع الشرق الأوسطي قد حلّ محلّه، فيما تعتبر رؤية ثانية أن الشرق أوسطية ليست مبررا كافيا للقول بانهيار النظام الإقليمي العربي، الذي وإن فقد الكثير من مقوماته، فإنه ما يزال موجودا.

ولكنني سأحاول في مقالي هذا (الذي قسمته إلى أجزاء بالنظر إلى تفرّع المقاربات وزوايا التحليل) اقتراح رؤية ثالثة: ماذا لو كان النظام الإقليمي العربي مجرد فكرة فقط، لم تتحقق بالفعل ولم تكتمل أركانها؟ ماذا لو كانت التصدعات التي تعرفها المنطقة العربية بمشرقها ومغربها نتيجة لتناقضات واكبت محاولات تأسيس هذا النظام الإقليمي، ولم تزدها الأزمات الأخيرة إلا وضوحا وتجليا؟ وإذا كان النظام الإقليمي العربي لم يتشكل أصلا، فكيف لنا أن نحكم بانهيار وتداعي ما هو غير موجود؟ وإذا سلّمنا بهذه الفكرة، ألا تعتبر هذه فرصة للتأسيس لنظام إقليمي حقيقي، مبني على أسس سليمة وعقلانية؟

بعبارة أخرى: إذا برهنّا على أن النظام الإقليمي العربي لم يتحقق إلا بشكل خطابي، فهل نحن أمام إمكانية بنائه بعيدا عن مجرّد التصوّرات الإيديولوجية والعرقية والقومية والمذهبية، وإنما بناءً على إدراك للضرورة "الوجودية" لبنائه؟

الأمن القومي العربي

قبل حادثة مدينة "بن قردان" التونسية الحدودية مع ليبيا، كانت الحلقة الأولى من مقال "انقراض العرب" تتطرق إلى مفهوم النظام الإقليمي، وإسقاطه على المنطقة العربية، ولكن هذا التطور الميداني "الخطير" جعلني أبدأ بالمقاربة الأمنية، التي يبدو أنها الهاجس الأول لجميع دول المنطقة في ظل الظروف الراهنة.

عن الأمن القومي العربي، قال أمين هويدي عقب اجتياح القوات العراقية للكويت سنة 1990: "من ناحية الإجماع على فكر واحد بخصوص هذا الأمن فهذا شيء غير موجود، ومن ناحية آلية يجمع عليها الكل ويحترمونها وينفذون قراراتها فهذا أمر غائب. وفي ظل غياب الفكرة والآلية لا بد أن نتوقع أن هذا الذي حدث يوم 2 أغسطس 1990 يمكن أن يحدث مرة أخرى ويتكرر لأننا في منطقة غير مستقرة يسود فيها إعمال القوة لتنفيذ الأغراض السياسية. فلا مجال في منطقتنا لممارسة السياسة على أساس توازن المصالح ولكن القاعدة العامة للتحرك السياسي هي توازن القوى".

وبالفعل، فإن ما حدث لتصحيح الوضع بعد اجتياح الكويت، كان اللجوء إلى خرق أمني أكبر بالاعتماد على الحليف الخارجي، فكانت بداية سقوط العراق، أحد المكونات الأساسية لأمن المنطقة العربية.

ويشير هويدي إلى المقومات الجيوسياسية للمنطقة العربية، التي تتجسّد في عدة نواح، لعل أكثرها وضوحا للعيان الامتداد والتواصل الجغرافي للدول العربية، حيث بإمكان كل دولة أن تشكل عمقا استراتيجيا لجارتها، كما تتأثر كل دولة بالتهديد الذي تتعرض إليه الأخرى. واليوم، ما أكثر الأمثلة على ذلك، فالحرب السورية والحالة العراقية والانهيار الليبي كلّ مرتبط بالآخر ويؤثر في الدول الجارة والبعيدة نسبيا على حدّ سواء.

ويشير البعض إلى إمكانيات التكامل بين الدول العربية، فأمن منابع النفط هو من أمن خطوط المواصلات، وقد نجد بعض الدول تشكو نقص اليد العاملة، فيما يشتكي بعضها الآخر من البطالة، وقد نجد دولا عربية تعاني تخمة مالية، وتبحث أخرى عن مصادر التمويل من أجل التنمية بمختلف وجوهها، وتضطر إلى الاستدانة بدل الاستفادة من فرص استثمار عربية ـــ عربية.

ولكن.. ما هو النموذج الأمني الإقليمي المعتمد في المنطقة العربية؟

مفاهيم في الأمن الإقليمي

برز مفهوم الأمن الإقليمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث نشأت هيئات ومنظمات أمنية إقليمية وتحت إقليمية، وقدّم المختصون نماذج للتعاون الأمني الإقليمي:

حيث نجد "الأنظمة الأمنية"، وهي حسب جيرفيس "تعاون مجموعة من الدول على إدارة منازعاتها وتفادي الحرب عبر إخماد المعضلة الأمنية".. ومن الأمثلة على ذلك نذكر منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ولا تبدو الحالة العربية مثالا يعبّر عن مفهوم الأنظمة الأمنية، فقد غاب فيها تفادي الحرب، ولم يتم القضاء على المعضلة الأمنية، بل بالعكس شهدت المنطقة سباقا حثيثا نحو التسلح، وتنامي الخوف والشك بين بعض الدول العربية.

وهناك أيضا "الجماعات الأمنية"، ويعرفها كارل دويتش على أنها "مجموعة بشرية أصبحت مندمجة، والمقصود بالاندماج هو تولد "الشعور بالجماعة"، ضمن أرض ما، وانبثاق مؤسسات وممارسات على درجة من القوة والاتساع تكفي لتأمين توقعات يمكن الاعتماد عليها بشأن التغيير السلمي بين سكانها".. والجدير بالذكر أن دويتش يرى في "الشعور بالجماعة" اعتقادا بأن المشاكل الاجتماعية المشتركة يجب حلها، ويمكن حلها، عبر عمليات "التغيير السلمي".

والسؤال الذي نطرحه: هل عرفت المنطقة العربية هذا "الشعور بالجماعة" بمعناه الأمني؟ وإن كان الأمر كذلك، فهل أدى ذلك إلى انبثاق مؤسسات وممارسات قوية وواسعة لتأمين التغيير السلمي كما يرى دويتش؟

أما "المجتمع الأمني"، فيعرفه دويتش أيضا بأنه "مجموعة من الدول يوجد بينها تأكيد حقيقي على أن أعضاء هذا المجتمع لن يدخلوا في قتال مادي مع بعضهم، وأنهم سيعمدون إلى تسوية خلافاتهم بطريقة أخرى"، وهذا التصور الذي وضعه كارل دويتش في خمسينيات القرن الماضي ليطبق في حالة المجموعة الأوروبية، يبدو جليا عدم صلاحيته في الحالة العربية، التي تجتاح فيها جيوش عربية دولا عربية أخرى.

أما مفهوم "الحلف" فله من البعد التعاقدي والتعاوني ما يمكن إسقاطه على علاقة بعض الدول العربية ببعضها الآخر، ولكن الحديث عن حلف عربي شامل يبقى مفتقرا للأمثلة المادية عبر التاريخ. فيما يعبّر مفهوم "الكتلة الدولية" بشكل مختصر عن "اتباع عدد من الدول لخط مشترك في مجال السياسة والدفاع والتجارة". وفي سياق مشابه يأتي مفهوم "الائتلاف"، الذي هو "اتفاق بين مجموعة من الدول على تحقيق هدف أو أهداف محددة وهي في العادة علاقة غير رسمية، في مجال محدد ومدة قصيرة، ولا وجود للعلاقات التعاقدية فيه، أو لا تمثل عنصرًا أساساً لوجوده".

وبالنظر إلى الحالة العربية في صورتها "الشاملة"، فإنها حسب التعاريف السالفة ليست "ائتلافا"، ولا "كتلة دولية"، ولا تعبر عن "حلف" أو "جماعة أمنية"، ولا تمثل "مجتمعا أمنيا" وبعيدة عن كونها "نظاما أمنيا".. فعن أيّ نظام أمني عربي نتحدث؟

"كامب ديفيد" تنسف "مجمّع الأمن الإقليمي"

ولعل أقرب مفهوم أمني إقليمي يمكن تطبيقه بالنظر إلى معطيات الوضع العربي، هو مفهوم "مجمّع الأمن الإقليمي  Regional Security Complex" الذي يعرفّه باري بوزان بأنه "مجموعة من الدول التي ترتبط مخاوفها الأمنية الرئيسية ببعضها البعض بصورة لا تجعل من إدراك تهديدات أمنها القومي بصورة منفصلة عن الأخرى أمرا ممكنا".

هذا المفهوم كان ممكن التطبيق حينما ساد الدول العربية إجماع على أن "إسرائيل" هي التهديد الأول في المنطقة، ما جعل "المجمّع الأمني الإقليمي" ممكن الحدوث. ولكن التحوّل الجذري في الرؤية العربية للتهديد الإسرائيلي، الذي كانت "كامب ديفيد" نقطة انطلاقه، أفرغ هذا المفهوم من معناه.

وعلى العكس من ذلك، يمكن لنا أن نجد داخل المجمّع الواحد ما يطلق عليه بوزان اسم "مجمّعات جزئية" (Sub-complexes) متمايزة عن بعضها، وهذا الأمر يبدو محققا في مجلس التعاون الخليجي، وبدرجة أقلّ في الاتحاد المغاربي.

خلاصة القول هي أن للعرب رؤى مختلفة حول أمن دولهم، سواء فيما تعلق بمصدر التهديد، أو بطرائق مواجهته. ولعلّ التحوّل الدرامي في معضلة الأمن العربي هي لجوء بعض الدول إلى التدخل المباشر أو غير المباشر في أمن دول أخرى.

وإذا كنّا قد رأينا في هذا المقال استحالة الحديث عن وجود "نظام أمني إقليمي عربي"، فسنتطرق في الحلقة المقبلة من "انقراض العرب" إلى شروط النظام الإقليمي، وما إذا كانت متوفرة في المثال العربي، مثال يراهن كثيرون ــ بما فيهم العرب أنفسهم ــ على فشله.. فهل سيشهد القرن الحادي والعشرون "انقراض العرب" أم أن الفكرة القومية ستنتقل من المرحلة "الإيديولوجية" إلى التأسيس المبني على الواقعية والمنفعة المتبادلة؟

(يتبع..)

* باحث في الدراسات الاستراتيجية والأمنية بجامعة الجزائر

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز