إيهاب الشيمي
شيــخ القــريـة
بقلم : إيهاب الشيمي
كعادتي كل صباح، ايقظت حواسي وقع أقدام قرص الشمس و هو يسرع الخطى لكي ينزع شعاعه رداء الظلمة عن تلك القرية الغناء كاشفاً بشرتها الخضراء المخملية الممتدة فوق جسد الوادي الأسمر الخصيب.
أكاد أقسم ان أناملي يمكنها أن تتحسس خيوطه الذهبية الدافئة التي تنطلق بسرعة متناهية لتخترق السطح الكروي الأملس لقطرات الندى البلورية التي ترقد في سكون فوق تلك الأوراق الخضراء لتتلألأ كالأحجار الكريمة، و لا أملك من روعة المشهد إلا أن أستجيب لتوسلات نفسي لكي تفارق ذلك الجسد المحدود للحظات لكي تحلق فوق ذلك البساط المخملي لترى من بعيد كيف تباعدت قسمات البشرة الخضراء في المنتصف لتفسح الطريق للملايين من قطرات الأمطار التي انسابت قادمة من الجنوب في هدوء مهيب ليروي نهرها ظمأ جسد الوادي المتعطش دائماً للمزيد منها ليتحدى بها محاولات الصحراء المستمرة للانقضاض عليه، و لكي يصبغ صفرة رمالها الحارقة بألوان أكثر بهجة و أقل حرارة و قسوة.
و بينما أنا غارق في الرومانسية اللامتناهية التي نشرتها تغريدات الطيور التي بدت و كأنها خرجت مثلي لاستقبال قرص الشمس بمواكبها التي تشق عنان السماء، تهادى إلى مسامعي أصوات حوار خافت قطع سكون المشهد المهيب.. نعم أستطيع تمييز مصدر الصوت .. إنه هناك في أقصى المشهد بالقرب من حافة القرية حيث تدور رحى معركتها الأبدية مع الصحراء..
في الطريق نحو مصدر الصوت، أستطيع مشاهدة العديد من “القصور” المتناثرة فوق البساط المخملي هنا و هناك بالقرب من مجرى النهر، تحيط بها مساحات منسقة شاسعة تعدو فيها خيولاً أصيلة تبدو مملوكة لأصحابها، بينما يمكنني بسهولة تمييز العديد من الأصوات السعيدة لمن هم بداخلها، بل و الاستماع إلى الجلبة التي يحدثها لهو أطفالهم من حولهم حتى كدت أنسى في غمرة انشغالي بمتابعة كل ذلك الترف أن هدفي هو تتبع مصدر ذلك الحوار الخافت، و الذي بدأ يصاحبه تدريجياً صوت أنين مكتوم يتسلل هو الآخر إلى مسامعي كلما اقتربت من وجهتي التي بدت أمامي هناك على مرمى البصر ..
ها أنا ذا وسط مجموعة من “البيوت” التي تكاد تظن للوهلة الولى أنها كتلة واحدة كبيرة من شدة التصاقها ببعضها البعض، و تناهي صغرها حتى تكاد توقن أن قاطنيها يمتلكون أجساداً أكثر نحولاً و أقل حجماً من اجساد أولئك الذين يقطنون تلك “القصور” العظيمة التي مررت بها تواً ..
ها هي مفردات الحوار تتضح شيئاً فشيئاً داخل أحد هذه “البيوت” .. ها أنا ذا اقترب أكثر لأجد أن من أخذت بزمام الحوار شابة نحيلة في العقد الثالث من العمر تمتلك جمالاً هادئاً تداريه كما هو واضح هموم كثيرة .. ها هي تتحدث فرحة عن نجاح مجهوداتها و زوجها وكل "أهل القرية" في زيادة جودة محصول هذا العام و ازدياد العائد منه، بل و عن إمكانية البدء في زراعة محاصيل لم يألفوا زراعتها من قبل في قريتهم، و لكن الحزن الشديد ينقض فجأة على نبراتها لتبث شجونها لتلك "المرأة العجوز" التي تكبرها بنحو أربعة عقود على الأقل لتحدثها عن عجزها و زوجها عن توفير ما يلزم أطفالهما من ملابس و اغطية قبل حلول الشتاء القادم !!
أصابتني بعض الحيرة من ذلك التناقض في حديثها، فكيف بها و زوجها أن يعجزا عما تقول، بينما كانت تصف منذ لحظات وجيزة ازدهار المحصول و زيادة العائد ؟! و لم تعط "المرأة العجوز" للدهشة التي انتابتني الفرصة لكي تستشري في عروقي أكثر من ذلك، فلقد التقطت طرف الحديث من جانبها لتقول لرفيقتها: و الله إني لأتالم لحالكم و حال كل "أهل القرية" يا بنيتي .. ثم زفرت زفرة طويلة كادت أنفاسها الساخنة أن تحرق وجهي لتكمل قائلة: في زماننا كانت "القرية" و ثرواتها ملكاً للجميع، أما اليوم فلقد منح "الكبير" ثقته إلى "الحداد" و رجاله الذين يسكنون "القصور" المتناثرة على حافة النهر ممن سيعينونه على زيادة موارده و استغلال كل بقعة في "القرية" كيفما يتراءى لهم، بينما ترككم و أولادكم تتسولون العمل لديهم ليلقوا لكم في النهاية بفتات ما يكسبون من بيع تلال الغلال و سبائك المعادن التي لم يحصلوا عليها إلا ببذلكم و أولادكم العرق و الدم من أجلها !
كانت كلمات "المرأة العجوز" كافية لأتبين الخطوط العريضة للحوار، و أتخلى و لو بقدر بسيط عن تلك الدهشة التي تملكتني من تناقض حقيقة ازدهار "القرية" و فشل تلك المرأة في الوقت ذاته في توفير احتياجات أبناءها، و لم أكد أنتهي من ربط خيوط الأمور ببعضها حتى انتفضت المرأة الشابة لتهرع إلى غرفة مجاورة ليعود صوت ذلك الأنين ليصطدم بأذني من جديد .. نعم، لقد أصبح أكثر قرباً من أي وقت مضى .. و أكثر وضوحاً .. و أكثر إيلاماً كذلك ..
لم أستطع إلا أن أتتبع خطواتها إلى داخل تلك الغرفة لأجد جسداً ضئيلاً منهكاً لطفل لم يتعد أعوامه الخمسة و قد استلقى على سرير لا تكاد أغطيته تستره، ناهيك عن أن تمنحه الدفء و السكينة !
اندفعت المرأة لتحتضن ذلك “الطفل” في لهفة و ألم و هي تحاول أن تبعث في نفسه الطمأنينة التي تفتقد هي لها.. ها هي تهمس في إذنه في رقة و عذوبة أن آلامه تلك لن تدوم و أن الغد سيجلب له حظاً أقل عثرة .. في التفاتة مفاجئة، نظرت إلى تلك الكومة من الملابس التي اتخذت مكانها على ارضية الغرفة الباردة، و ارتدت على عجل ذلك الثوب الوحيد اللائق للخروج به منها، و حملت طفلها متجهة للباب و هي تخبر العجوز، دون أن تلتفت إليها، أنها ذاهبة بطفلها إلى "شيخ القرية" عسى أن يقرأ له من "الرقيا الشرعية" ما يغنيها عن نفقات العلاج التي يطلبها "الحكيم" في مشفى "الكبير".
لا اشك أنكم تعلمون ما أنا فاعل الآن .. بالفعل اندفعت بشدة خلف الشابة التي خرجت تبحث عن غد أفضل لطفلها قبل أن تغلق الباب و تتركني حبيس ذكريات الماضي مع تلك العجوز. الطريق لا يشبه ذلك الذي مررت به فوق تلك "القصور"، فالدروب أكثر ضيقاً، و أصوات الضحكات أكثر خفوتاً، و الأطفال اقل لهواً، لكني استطيع طوال الطريق تمييز رائحة الغضب التي تفوح من الأحاديث التي وجدت طريقها إلى أذني عبر نوافذ “البيوت” التي مررنا بها و نحن في طريقنا إلى " شيخ القرية "، فالكل غير راضٍ عما آلت إليه أحوالهم، و كيف استاثر رجال "الحداد" بكل ثروة "القرية" بينما لا يجدوا هم ما يسدوا به جوع اطفالهم أو ما يدفعونه لمداواة من يمرض منهم.
حين وصلنا إلى مقر " شيخ القرية " فاجئتني تلك المساحة الضخمة التي خصصها "أهل القرية" للصلاة بينما يحشرون اجسادهم في تلك "البيوت" الضيقة، و إن ظل المكان على اتساعه بسيطاً بل و متواضعاً مقارنة بحجم صندوق الصدقات الذي تصدر مدخل المكان !! على الباب وقف ذلك "الشيخ" .. رجل يبلغ الثمانين من العمر، لا يلبس ما يميز الشيوخ من الجلابيب، بل يلبس مما يلبسه "اهل القرية"، و له لحية خفيفة .. بادرها بقوله: مرحباً يا بنيتي و اقبلي عذري عن خفوت الإضاءة لقلة عدد القناديل و نقص الزيت اللازم لها بسبب قلة الصدقات التي استقبلها الصندوق هذا العام، ثم استطرد حديثه داعياً إياها للدخول لرؤية ما يمكنه فعله للتخفيف عن "الطفل".
بدأ " شيخ القرية " تفحص “الطفل” عدة مرات متقمصاً دور الطبيب أكثر منه دور الداعية، ثم وضع كفه على صدر “الطفل” و أخذ يتمتم بكلمات لم أستطع تمييزها، و إن توقعت أن تكون آيات من الذكر، و بينما بدأ صوت أنين “الطفل” في الخفوت، علا في المقابل صوت جلبة يبدو أنها أخذت طريقها مقتربة في سرعة إلى حيث يقطن " شيخ القرية "، و على عكس ما بدا عليه من هدوء و طمانينة حين استقبل المرأة و طفلها، بدأت أمارات التوتر تأخذ مكانها على صفحة وجهه، ثم أنهى في تسرع واضح ما يتلوه من آيات ليستوضح حقيقة ما يحدث بالخارج.
حين خرجنا، وجدنا "أهل القرية" و قد وقفوا بالباب متذمرين مما يحدث لهم و مطالبين الشيخ بمساندتهم ، و هنا صرخ " شيخ القرية" فيهم بصرامة مذكراً إياهم أن ما يفعلون هو خروج على سنة الله أن يكون الناس درجات بعضها فوق بعض، الغني و الفقير، و القوي و الضعيف، و الحاكم و الرعية، و أن "الكبير" و إن تخلى عنه الصواب في أشياء، إلا أنه مازال "ولي الأمر" الذي يجب له "السمع و الطاعة"، و يكفي أنه قد ضم " شيخ القرية " و بعض أولاده إلى قائمة "مجلس الصفوة" الذي يضم "الحداد" أيضاً لكي ينقل إلى "الكبير" صوت "أهل القرية" و مطالبهم، ,و أن عليهم أن يعودوا لمنازلهم و ينحوا غضبهم جانبا من أجل استقرار "القرية" ، فالله لا يرضيه أن يهلك الزرع و النسل، و "الكبير" مهما حدث فسيظل بمثابة الوالد للجميع!
و وسط أتون الجدل المحتدم، لم تجد المرأة الشابة بداً من مغادرة المكان عائدة إلى دارها قبل أن يداهمها الليل .. طرقت الباب لتفتح لها العجوز هامسة لها الا ترفع صوتها حتى لا يصحو زوجها الذي عاد لتوه منهكا من يوم عمل طويل، فتدخل هي الأخرى لتلقي بجسدها المنهك بجانب طفلها على ذلك السرير لتستغرق في سبات عميق، بينما استغرقت أنا في محاولة فهم لماذا لا أستطيع تقبل " شيخ القرية " بالرغم من ثقة "أهل القرية" الواضحة به ؟!
مع بزوغ "الفجر"، ينتفض كل من في البيت على ذلك الصوت الهادر لوقع آلاف الأقدام التي تنهب الأرض في خطىً مسرعة حاملة "أهل القرية" إلى حيث بيت "الكبير" لإجباره على الانصياع لمطالبهم، و الاستماع لصوتهم، و منحهم القدر العادل من ثروة "القرية" التي يستحقونها لقاء ما يبذلونه من جهد و عرق .. و بينما خرجت لأتتبع خطاهم، استوقفني ذلك التناقض الغريب الذي لم أستطع فهم فحواه، فلقد وقف " شيخ القرية " ليعلن بأعلى صوته أمام الجميع أنه على موقفه من أنه لن ينضم إلى "أهل القرية" في التوجه لبيت "الكبير"، بينما استطعت أن الحظه و هو ينحنى ليقول بصوت خافت لبعض أتباعه أنه لن يمنع من يريد الانضمام منهم إلى "أهل القرية"، على ان يتحمل كل منهم عاقبة أمره !
في صباح اليوم التالي، كان جسدي مازال قابعاً هناك منتظرا نفسي لكي تعود إليه لكي يستقبلا معاً قرص الشمس من جديد، و لكنها لم تعد، فلقد وقفت هناك في الأعلى تراقب "القرية" التي طالما عشقتها و قد عزل أهلها "الكبير" الذي طالما صم أذنيه عن الاستماع لهم، و تشاهد "الحداد" و رجال "مجلس الصفوة" و "أهل القرية" يقتادونهم إلى "الحصن" حيث سيتم احتجازهم لحين البت في أمرهم.
لكن المشهد الأشد جذباً للانتباه، كان مشهد تلك الربوة التي تتوسط "القري" و التي يقف عليها رجل لم أستطع تبين ملامحه من موقعي و هو يخطب في الناس قائلاً: إن ما حدث كان أمراً محتوماً، فالله "يمهل و لا يهمل"، و "الكبير" و "الحداد" و "مجلس الصفوة" علوا في الأرض، و كان السكوت عليهم إثماً، و أصبح الخروج عليهم واجباً، و أنه كان حقاً على الله أن ينصر "أهل القرية المؤمنين"، و أنه سيعمل قدر جهده لكي ينفق "ما آتاه الله" لينشر "الحرية و العدالة" في ربوع "القرية".
اقتربت أكثر من الربوة لأتبين ملامح الرجل، فطوال مكوثي بين "أهل القرية" لا أذكر أنه كان هناك من تبنى مطالبهم لكي يجرؤ أحدهم الآن و يعتلي منصة خطابتهم و يمنح نفسه حق قيادتهم !! .. ها أنا ذا اقترب أكثر فأكثر من الرجل .. ها هي ملامحه تتضح شيئا فشيئاً .. رجل يبلغ الثمانين من العمر، يلبس مما يلبسه "اهل القرية"، و له لحية خفيفة .. نعم إنه هو .. من لم أقتنع بصلاحه من البداية رغم ثقة الجميع ..
إنه "شيخ القرية" !