عاجل
الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
أبناؤنا .. بين التربية وضحايا المعلفة

أبناؤنا .. بين التربية وضحايا المعلفة

بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر

عجبا نشكو ونتباكى على نتاج الأخلاقيات في الأجيال الجديدة وكأننا لم نربيهم أو كأنهم نبت شيطاني فوجئنا بوجوده بيننا ونحن سكان كوكب الأطهار الأنقياء ، والذين تفانوا وأفنوا عمرهم في تربية أبنائهم ، ثم فجعوا باختلاف النتاج عما عملوا من أجله بعلم وفهم وإخلاص سنوات طويلة ، وكان أولى أن نكون أمناء ومنصفين فنعترف أننا مجرمون وفشلنا في تربية وكذلك تعليم أبنائنا فهم في النهاية نتاج أفعال أيدينا ، وليس كما ندعي كذبا أن فشل التعليم أيضا تتحمله الدولة ، فلو صحت التربية في البيوت لما انهار التعليم والذي يحكمه أخلاقيات الأجيال التي نربيها ، فنحن لم نستوعب معان التربية كما ينبغي سواء كعلم فطري مذكورة أساسياته المطلقة في كتاب العلوم الأشمل والأكمل وهو القرآن الكريم ، وراسخة أسسه في تاريخ موروثاتنا الحضارية التي نسخر منها ونهملها رغم أنها علمت الدنيا معان المدنية وهي تربية النفوس وقيمها المطلقة والمحفورة تفصيلا على جدران المعابد المصرية ، واستعضنا عنها بنظريات غربية مستوردة وطبقناها بنكهة مصرية شرقية ، تماما مثلما تصنع تورتة الآيس كريم بنكهة (البصارة).



فالتربية هي علم ترويض النفوس ، فالنفوس تأتي الدنيا وهي غلف جاهلة بمعان الحدود رافضة الانصياع في إطارها ، متربصة لأية فرصة للتنصل من الواجبات والالتزامات والحدود ، ولذلك أنزل الخالق العظيم في وصف النفس وتكوينها وتربيتها في قرآنه الكريم أكثر من (300) ثلاثمائة آية ، ثم جعل سبحانه وتعالى للأم أكبر قيمة في حياة البشر ومنحها عن هذا الدور أعظم مكافآته على الإطلاق ، فلا قبول ولا جنة لمن تغضب عليه أمه ، ليس هذا التكريم لمجرد أن حملت وولدت ، ولكن لأنها المسئولة الفطرية عن التربية ، والتي هي ترويض هذه النفوس وتهذيبها والصبر وتحمل المعاناة على تمردها وسلبياتها حتى تستقيم عبر سنوات طويلة تفني فيها الأم عمرها وشبابها وصحتها من أجل تربية نفوس أبناءها في المقام الأول ، بجانب رعاية متطلباتها المادية في المقام الثاني ، فالرعاية تختلف كثيرا عن التربية ، فراعي الغنم يرعاها بالطعام والشراب والمبيت والنظافة ، وكذلك تفعل بعض السيدات مع طيورها التي تربيها في البيوت ، ولكن الكارثة الإنسانية الكبرى أن الأمهات في الأجيال المؤخرة أصبحت ترعى أولادها وكأنهم غنما أو طيورا ناطقة ، ولكنها أبدا لا تربيهم ، فهي حريصة على توفير ما يحتاجونه وما يطلبونه من مأكل وملبس ورفاهيات وكماليات حياة ، بحجة أن لا تجعلهم محرومين من شيء ، بل وتسمي هذا (أحسن تربية) ، نعم هو أحسن رعيا ولكنها ليست تربية بل هي عملية إفساد وتخريب للنفوس ، لأنها قررت أن تصنع من بيتها معلفة للبشر ، ترعى فيها أولادها معتقدة أنها تربي ، وهي ربما تجهل أنها قد دمرت استراتيجية التربية في قرارة نفسها من قبل أن ترزق بالأطفال بعزمها ونواياها أن لا تحرم أبنائها مما يشتهون ويحلمون به ، ولا تمنع ابنها أن يفعل شيئا يريده حتى أصبح صغارنا أسوأ أنواع الأطفال في العالم وأكثرهم وقاحة وسوء تربية وإزعاجا وتنطعا وحماقة.

فأول أساسيات التربية التي دمرناها أن الطفل يجب تعليمه معنى الحدود وحقوق الآخرين وحتمية مراعاتها ، ولن يتعلم هذا إلا إذا علمناه تحمل المسئولية عن نفسه أولا ثم ما حوله تدريجيا من عمر السنة الواحدة بل وأقل ، فهو مسئول مباشر عن نظافة ملابسه بداية من اعتياده تنظيم عمليات إخراجه تدريجيا ، ثم مسئول عن جمع وتنظيم لعبه،  ثم مسئوليته عن نظافة وتنظيم مكان نومه وطعامه ، ثم تدريجيا مسئول مشارك لمن يحيا معه عن نظافة وترتيب البيت ، ثم تزداد مسئولياته يوما بعد يوم حتى يصل لسن المراهقة فيصبح مسئول رئيسي ومباشر عن مشاركة أهل بيته في كل شيء داخله ثم خارجه وصولا للعمل وتمويل ميزانية هذا البيت، هكذا علمنا الخالق العظيم الذي خلق البشر ويعلم ما يصلح حالهم ، وأوضحه في قوله تعالى عن نبي الله إسماعيل وهو صبي صغير لم يتعدى الخامسة عشرة .. {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ .. }الصافات102 ، أي أنه ببلوغه سن الصبا والإدراك فقد أصبح قادرا على مشاركة أبيه في العمل ، وهو ما يفعلونه اليوم في الغرب بتحمل الأبناء مسئوليتهم الشخصية في عمر السادسة عشر ، وهو على العكس تماما مما نفعله في بيوتنا ، حيث يتحمل الوالدين مسئولية كل شيء بلا حدود أو نهاية ، والأم ونتيجة حبها وإحساسها بتقصيرها الدائم في حقوق أبنائها (خاصة لو كانت أم عاملة) فهي لا تكلفهم شيئا ، بل تتحمل كل الأعباء من نظافة وترتيب ومأكل بل ومذاكرة وتحركات ومتطلبات حتى أصبح من الطبيعي مثلا أن لا يكلف الولد أو البنت خلال الدراسة بأي واجبات أخرى بحجة أنه يذاكر ، وحتى في أجازته تدعي كذبا أنه يستحق الراحة لتعبه وأجهاده زورا بالمذاكرة ، فيتحول الصغير لمسخ بشري كسول وأناني وضعيف القدرات النفسية والجسدية ، ولديه يقين أنه صاحب الحقوق دون واجبات ، وحتى الدراسة نفسها فيتحمل الوالدين مسئوليتها كاملة نفسيا وماديا ، وكنتيجة طبيعية لمنطق الرعي في المعلفة البيتية يعتاد أبناؤنا ولدا أو بنتا على الكسل والخمول والاعتماد على الغير ، ويستقر في نفسه أنه جاء الدنيا ليأخذ بلا مقابل ، وتتراجع كل قدراته العقلية والجسدية ، حتى أن أكثر من 50% من المتقدمين للكليات العسكرية والتربية الرياضية يتم رفضهم طبيا ونفسيا وهي كارثة بكل المقاييس البشرية ، والكارثة الأكبر هي بعد تخرج (الننوس أو الننوسة) ، فهو تعلم فقط أن يأمر فيجاب فهو لا يصلح إلا مديرا جاهلا ، وبالتالي فمن واجبات الوالدين ثم الأم الكبرى (الدولة) أن توفر الوظيفة التي تليق بأحلامه ، ويجب أن يتقاضى ما يحلم به ، أو سيظل عاطلا وعالة على والديه وضيفا مستديما على الكافيهات أو النوادي أو أمام شاشات التلفاز أو شبكات التواصل الاجتماعي ، والطامة الكبرى هي في وصوله أو وصولها للزواج ، فأولادنا وبناتنا عودناهم أنهم جاءوا الدنيا ليستمتعوا فقط ، ودون مسئوليات وبالتالي فهم يرون الزواج متعة وتفريغا لشهوات ورغبات النفوس المشوهة في معلفة بيوتنا العامرة ، فتكون النتيجة فشل أكثر من 70% من زيجات الشباب في السنة الأولى ، بل وفشل أكثر من 90% من الشباب في الاستمرار في عمل أو وظيفة لأكثر من سنة واحدة ، والكارثة الأكبر هو ارتفاع معدلات الجرائم سواء الجنائية أو الاجتماعية بين الشباب من مختلف المستويات الاجتماعية خاصة المستويات المرتفعة .

نعم .. لا ننكر أن ما نحن فيه هو نتاج ممارسات خاطئة عبر عقود طويلة سابقة ، نتج عنها حرص كل أسرة على توفير كل ما نحلم به لأبنائنا بغض النظرعن فائدته أو جدواه الحقيقية ، ونعم .. غاب دور الدولة في توجيه الشعب لما يؤسس لمستقبل شبابه ، ونعم .. نتعرض لحملات تشويه إعلامية لقيمنا وأخلاقياتنا حتى أصبح الزيف والباطل حقا ، والحق باطلا ومرفوضا وأبسطها مثلا أن أمريكا وألمانيا أقرتا قانونا لعودة المرأة لبيتها لتربية أولادها بمرتب كامل تنفيذا لتوصيات دراسة استراتيجية مشتركة أثبتوا فيها أن خروج المرأة للعمل كان سببا مباشرا لتدني مستويات الشباب العلمية والأخلاقية ، ولكن الغرب نفسه هو من يمول في الشرق والدول العربية حملات مسعورة لدفع المرأة العربية والشرقية للخروج للعمل رغم وجود بطالة بين الرجال تعادل ضعف عدد النساء العاملات ، ولا عجب فأمريكا نفسها صاحبة القرار التاريخي المسجل بالكونجرس منذ (90) تسعين سنة ، بأن تحديد النسل ومحاولة خفض معدلات الإنجاب تعد جريمة أخلاقية في حق البشرية ، لأن البشر هم أهم ثروة إنسانية وأساس التنمية والتطور ولا يمكن تعويضها لو تناقصت ولكنها حرصة أن تتحمل سنويا ومنذ 40 عاما تكلفة تحديد النسل في مصر كمعونة مجانية .

 ولذلك يبقى دوما السؤال الأهم ، أين أنت أيها الإنسان صاحب العقل والقلب والنفس الواعية ، والوحيد صاحب الفكر والقرار في حياتك ، كيف تقبل أن تكون أمعة أو غنما يساق في معلفة الحياة فتقلد كل ما حولك دون فهم أو تدبر وتتبع ضلالات الإعلام ، ولماذ تصر أن تتعلم ما لا ينفعك ، ولماذا تصر أن تصنع من نفسك رئيسا ووزيرا وعالما وفقيها في كل مجال وجدال ، سواء على صفحات التواصل أو بين أصدقائك ومعارفك ، وأنت في الحقيقة فاشل بامتياز في تقييم وتقويم حياتك ومستقبلك ، وكان أولى بك أن تضع لنفسك استراتيجية وأهداف تسعى لها ، فتتخذ من القرارات المصيرية في عمرك ما يضمن تحقيقها ، وساعتها لن تكون في حاجة لجلد الذات أو تعيين نفسك جلادا ومنتقدا وساخطا ورافضا لكل ما يفعله غيرك من البشر أو الدولة ، لسبب وحيد .. وهو أنك لن تجد وقتا أو اهتماما لهذا ، لأن استمرار نجاحك سوف يغنيك عن تعليق فشلك على شماعات غيرك ، ولنا عبرة قاطعة ومبهرة في 140 ألف مشروع سوري في مصر نجحت في سنوات قليلة ويعمل فيها أكثر من نصف مليون شاب مصري .

أخيرا .. لابد وأن ندرك أن الفشل حلقة مفرغة ومتوارثة ولن يخرج منها إلا من يستطيع كسرها بعلم وفهم وصبر وتحمل ودون انفعال أو تهور ، ولكن هذا يتوقف على شروط لابد من تحقيقها في نفسك ، أهمها أن تكون أمينا مع نفسك ولا تلقي كل فشل على شماعات غيرك ، وثانيها .. أن لا تقيس الموضوعات بمقاييس مختلفة (تكيل بمكيالين) تبعا لأهوائك وشهوات نفسك ، مثل من يرى أن نجاح منظومة الخبز والتموين هي رحمة من الله ولكن زيادة الأسعار هي فشل من الدولة ، وثالثها .. أنك مجرد اسم ورقم في تاريخ الحياة ولا قيمة لك ، إن لم تترك خلفك شيئا أو علما ينتفع به غيرك بعدك أو أولادا تفتخر بهم أمام الله ، ويذكرك الناس دوما بكل خير تركته لهم .

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز